اختلاط حابل النشاط الاقتصادي بنابل القِدم وسم منطقة محطة الرمل وسط الإسكندرية بسمتها الغريب، الذي ما كان ضجيج البيع والشراء وحركة نزول السلع – جميع أنواع السلع – ونفادها ليكسر هذه الغرابة، التي تتبدى أول ما تتبدى في واجهات ومداخل الأبنية العتيقة، والطلة الشجية لشوارعها الخلفية وأسمائها الغريبة، مع ذلك الحس النشاز المخالف لمشاعر الترفيه المسيطرة على جماهير قررت دخول دور السينما للضحك والاستمتاع ومآرب أخرى... حس نشاز كانت تفرضه لوقت قريب قاعات الاستقبال ونوعية الزخارف والديكورات بهذه الدور، قبل الشروع في تجديد بعضها وهدم البعض الآخر! وفي شارع النبي دانيال ذلك الشريان التجاري الرابط بين محطة الرمل ومنطقة محطة مصر، كل ما تحتاجه وسط ما لا يعلم عدده سوى الله من المحلات وصناديق البضائع والمركز الثقافي الفرنسي وجامع قديم مصنف كأثر ما زالت أعمال الحفر الأركيولوجي قائمة في فنائه وعلى جانبيه ومعهد ثانوي أزهري للفتيات ... كل ما تحتاجه - لو امتلكت الحس السليم بروح الأشياء - انحرافة صحيحة في الموضع الصحيح، طالما ذكرتني بحديث مايكل أنجلو عن قوة وبصيرة الضربة الأولى في قالب الصخر وصولا لروح التمثال! تحتاجُ هذه الانحرافة للوصول إلى بيت الشاعر كفافي حيث الوجه الآخر الموغل في آخريته للحياة! كثير من المباني والمنشآت مملوكة إما لورثة يونانيين أو للبطريركية اليونانية بالإسكندرية، ومنها مبنى مزروع زرعا في شارع جانبي متفرع من شارع صفية زغلول، اسمه شارع سان سابا، المبنى اسمه الكابينة ذو واجهة من الصاج وباب جانبي مستطيل، بمجرد العبور يتملكك ذات الحس بالغرابة لأنك دخلت بيتا
صيفيا لأحد الفقراء! وكأن الفقراء يمتلكون بيوتا صيفية وأخرى شتوية! بتعبير أدق يتملكك الحس بمكان يمتلكه أحد الأثرياء ومن شدة ثرائه لا يدري ماذا يفعل به، ربما يتركه لعائلة أحد المُسْتَخْدَمين الموثوق في ولائهم من قديمٍ وقد رحل دون أن يترك شيئا لذويه، المبنى في الأساس صُمِّم منذ عقود لأجهزة التكييف العملاقة الخاصة بسينما ريالتو ويقع في المؤخرة منها، ومع التقدم في الزمن ما عادت المكيفات بحاجة لكل هذا الهدر، فبقي المكان على حاله، حتى سلمه المالك لمؤسسة جدران للثقافة والفنون بالإسكندرية، إحدى مؤسسات المجتمع المدني غير الربحية والهادفة إلى إقامة مشروعات تنموية ذات بعد تثقيفي وتعليمي بالأساس، بدأ العمل الثقافي بالكابينة عام 2010 بإدارة مباشرة من الشاعر والمترجم السكندري عبد الرحيم يوسف، حيث عكف على تحويله إلى مركز ثقافي صغير له جزءان رئيسيان: مكتبة عامة عُقدت فيها مناقشات ولقاءات وندوات ثقافية وعروض سينمائية وبعض العروض المسرحية والموسيقية الصغيرة، وحجرة تدريب للفرق الموسيقية الأندرجراوند حيث شهدت العديد من البروفات والتسجيلات والحفلات الموسيقية. واستمر العمل في الكابينة بشارع سان سابا حتى انتهى المشروع في أغسطس 2016 ببرنامج (سان سابا كومبليه). على مدار ست سنوات وبصورة أسبوعية عرض سينمائي كل ثلاثاء، وندوة فكرية وثقافية كل جمعة، وحفل موسيقى، بل امتد الأمر ليسع المكان لمهرجان موسيقي سنوي تنظم فعالياته تحت عنوان أفقي، لم تخضع عروض السينما للتعاطي مع الوضع التجاري؛ فعرضت سينما أوروبا الشرقية بالإضافة إلى عروض السينما المستقلة من دول مختلفة عبر العالم، وبالمثل في ندوات الفكر ومناقشات الكتب الإصدارات الثقافية كان لها خط لم تحد عنه طوال فترة عملها، فلم تخضع لقيم زائفة من نوع الأكثر مبيعا، أو الكُتَّاب نجوم الجماهير الناشئة والشباب.. من أهم مميزات مركز الكابينة الثقافي البساطة والحميمية في التعامل، فحين تدخل المكان ما من عين تترصدك، وما من أحد يموه على تشككه في وجودك بالتطوع لتقديم مساعدة كاذبة، بل المكان مفتوح وحر وملك للجميع قولا وفعلا. مع التقدم في الأنشطة اكتسب المكان سمعة حسنة، دفعت الكثيرين من مدعي الأدب ممن يحرصون على نشر كتب ذات طباعة فاخرة، تتبعها ندوات في قاعات فخمة مكيفة، حبذا لو كانت تابعة لوزارة الثقافة أو نوادي الأثرياء، إلى الإلحاح على إدارة الكابينة لتنظيم فعاليات خاصة بمنجزهم الردئ دون جدوى. الجميل في الأمر أن كل هذه الأنشطة باستمراريتها وجديتها تمت في إطار من العمل التطوعي، ما من مقابل مادي، ما من أغراض شخصية.. فقط حب الأدب والثقافة جمع المهتمين من أهل المدينة بعيدا عن المؤسسة الرسمية بروتينها وضيق أفق القائمين عليها. أصحاب المكان كانوا واضحين من البداية وقرروا أنهم يقدمونه لمدة محدودة تنتهي في 2016، وفي أغسطس من نفس العام واقتراب موعد الرحيل دشن مدير المشروع الشاعر عبد الرحيم يوسف هاشتاج (سان سابا كومبليه) داعيا جمهور الكابينة للكتابة في وداعها دون بكائيات أو أحزان؛ لنعتبرها نهاية مشروع وبداية جديدة لمشروع جديد، بالفعل توالت الكتابات المشوقة معبرة عن حب وامتنان، كما قدم الشاعر كشف حساب لم يكن مفاجئا في ثرائه وقيمته فشمل: 142 حفلة موسيقية.. وانطلق منه مهرجان أفقي الموسيقي السنوي.. وعرض 121 فيلم.. و268 لقاء أدبي وفكري.. بالإضافة لعدد من الورش في الموسيقى والصحافة والكتابة الأدبية.. ومكتبة صغيرة شهدت حركة استعارة بمعدل 120 كتابا شهريا..على مدار السنوات الست عمر المشروع الذي انتهى وبقيت دروسه شاخصة في الوسط الثقافي السكندري... درروس شملت قيمة العمل التطوعي إذا صدقت النوايا، وخلخلة أوهام راسخة من نوع هذا ما يريده الجمهور، أو أن الثقافة الجادة معزولة عن الناس ويتم العزوف عنها.. تحية للكابينة الحاملة لكل القيم الجميلة التي جاءت بها مؤسسة جدران للثقافة والفنون وتحية لكل أسرة العمل بها.
&