&
اعتدنا الاعتقاد او ربما يحلو لنا الاعتقاد بأن الفنانين هم عبارة عن عباقرة مجانين وبأنهم أصحاب رؤى ثاقبة وأفكار تتسامى على الحياة اليومية ولا تتأثر بها لأن هذه الحياة اليومية هي للاخرين وليس لهم، هم المرتبطون بالسماء وبالاعالي وباللامنظور وبأعماق النفس الانسانية المبهمة واللامحدودة وربما اللامنطقية ايضا. ويبدو الارتباط قويا جدا بين الجنون والمواهب الفنية بحيث اننا نستخدم احد هذين التعبيرين مكان الاخر أحيانا كي نصف فنانا او عملا فنيا ابداعيا. اما الفنانون انفسهم فبعضهم يصل الى حافات الجنون بالفعل فيما يكتفي آخرون باستغلال ملامح جنون مثل ترك شعورهم دون تمشيط واختيار ملابس لا تتبع القواعد المعروفة وإطلاق جمل ماكرة غامضة ومبهمة تعطي اكثر من معنى ولها اكثر من تفسير وهم يعرفون جيدا ان هذه الملامح والتعابير تمنحهم شهرة وإعجابا اكثر من اعمالهم احيانا. &
&
نماذج عديدة
احد النماذج التي تؤكد هذه النظرية المؤلف الموسيقي وعازف البيانو الالماني روبرت شومان وكان أقرب الى الجنون عندما الف "كونشرتو الكمان" في عام 1853 واهداها لعازف الكمان جوزيف جواشيم الذي رفضها في الحال لأنه رأى انها كانت نتاج عقل مضطرب. وظلت المعزوفة في طي النسيان لحين اعادة اكتشافها من جديد بعد مرور ثمانين عاما حيث عزفت لاول مرة في عام 1937.وفي مهرجان تغيير العقول الذي نظم في لندن في شباط (فبراير) الجاري، طرحت كونشرتو الكمان ضمن جلسة نقاش جمعت بين اصحاب تخصصات عديدة مترابطة لمناقشة العلاقة بين الابداع الفني والصحة العقلية. وعند عزف المقطوعة أشاد الجميع بالجهود التي بذلتها عازفة الكمان باتريشيا كوباتشنسكايا مع اوركسترا عصر التنوير (Age of Enlightenment ) في مسعى لإظهار هذه المعزوفة بمستوى جيد … ولكن دون جدوى. فهناك حقيقة ثابتة وهي ان هذا المؤلَف ليس جيدا تماما وهو امر غير مستغرب لكون واضعه شخص واجه مشاكل عديدة على صعيد صحته العقلية والنفسية.&
من المؤكد ان حالات الانهيار والتعب والاجهاد وفقد الأمل وحتى اليأس الكامل تقضم قدرة الانسان على التحمل والمواصلة. فنسنت فان كوخ كان مدركا تماما لهذه الحقيقة عندما كتب لشقيقه ثيو متحدثا عن فترات انهياره ويأسه "انا غاضب من نفسي لانني لا استطيع ان افعل ما اريد فعله. ففي مثل هذه اللحظات أشعر وكأنني مستلق داخل بئر عميقة ومظلمة مقيد الذراعين والقدمين". ومن المؤكد ان انتاج عمل إبداعي عظيم صعب جدا عندما تنتاب المرء مشاعر مثل هذه ولا يستطيع التخلص منها ومن تأثيراتها بسهولة. تتطلب اي ممارسة فنية ناجحة تجاريا مواظبة وإدامة وانضباطا وصحة عقلية جيدة. غير ان ديمومة التوتر والإجهاد ورفض المجتمع المستمر وثقل الفقر الذي قد يستمر لفترات طويلة، لا بد وأن يؤدي الى اصابة اي شخص بانهيار عصبي او بانهيارات عصبية متلاحقة. فبعد مرور خمسة اشهر على إنتهائه من وضع كونشرتو الكمان التي قوبلت بالرفض، حاول شومان الهرب من الملائكة التي تغني داخل رأسه بالقاء نفسه في نهر الراين. ولم يمت شومان وظلت الملائكة رفيقة دربه حتى وفاته في ملجأ بعد مرور ثلاث سنوات.&
بالنسبة للهواة، يمكن للابداع الفني والصحة العقلية ان يتعايشا بشكل جيد حيث اكد العديد من المشاركين في المهرجان بأن التعامل مع الفن او الموسيقى او الشعر او المسرح كهواية يحسن قدرات ممارسيها الذهنية والنفسية والعقلية الى حد بعيد. ووفقا لتقديرات منظمة الصحة &العالمية تسبب الصحة العقلية حالات اعاقة وموت في مختلف انحاء العالم اكثر من السرطان والجلطة وامراض القلب وحتى الحرب. والاهم من ذلك ان الاحصاءات لا تشير الى اي علاقة واضحة بين الامراض العقلية والابداع: فهناك واحد من كل اربعة اشخاص يعملون في مجال ابداعي يعاني بشكل او بآخر من أمراض عقلية غير ان هذه النسبة هي نفسها لدى غير العاملين في مجال الابداع.&
واظهرت دراستان حديثتان على الاقل أن المبدعين غالبا ما يكون أحد اشقائهم او ابويهم مصاب بمرض التوحد او مرض فقدان الشهية العصبي (انوركسيك) او بانفصام الشخصية او أن يكون ثنائي القطب ولذا ينشأون بطريقة وأفكار مختلفة ويتعاملون مع البيئة المحيطة بهم بشكل مختلف. بعد كونشيرتو الكمان، ادت اوركسترا عصر التنوير في المهرجان السمفونية الثالثة لشومان المسماة (الراينية) فبدت مليئة بالاشعاع وبالحيوية وبالطاقة وبالنور وبالجمال وحتى بأفكار عميقة. وكان شومان قد الفها على عجل في عام 1850 بعد عطلة هادئة وسعيدة برفقة زوجته كلارا. وهي تثبت ان الفنانين مثل غيرهم ينتجون افضل ما لديهم عندما يتمتعون بصحة جيدة.