&
&
تأتي أهمية هذا الكتاب "فلسفة العلم عند هانز ريشنباخ" للباحث د.حسين علي أنه يتناول التفكير العلمي عند واحد من أبرز فلاسفة العلم المعاصرين الذين دافعوا عن العلم بوصف أفضل وسيلة لاكتساب المعرفة، ألا وهو الفيلسفوف الألماني هانز ريشنباخ، وقد عني الباحث بالتفكير العلمي عند ريشنباخ وفقا لثلاث نقاط: أولا محاولة جعل الفلسفة تصل إلى ما وصل إليه العلم من دقة وإحكام، وثانيا بناء المعرفة على أسس تجريبية ومنطقية، فالرياضة البحتة منطقية والعلوم الطبيعية أساسها التجربة والخبرة، وثالثا رفض كافة التأملات الفلسفية الصادرة عن العقل الخالص وبذلك لا تجد الميتافيزيقا مكانا لها في فلسفة ريشنباخ العلمية.
وقد أكد د.حسين علي على أنه إذا كانت أقدام العلم قد ترسخت اليوم في الحضارة الغربية، فإننا ما زلنا ـ على المستوى القومي ـ أحوج ما تكون لروح التفكير العلمي، ففي الوقت الذي أفلح فيه الغرب في تكوين تراث علمي امتد، في العصر الحديث، طوال أربعة قرون وأصبح يمثل في حياة هذه المجتمعات اتجاها ثابتا يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه، في هذا الوقت ذاته، يخوض بعض المفكرين في عالمنا العربي معركة ضارية في سبيل إقرار أبسط مبادئ التفكير العلمي. ويبدو حتى اليوم ونحن نمضي قدما نحو القرن الحادي والعشرين أن نتيجة هذه المعركة مازالت على كفة الميزان.
قسم د.حسين علي الكتاب إلى أربعة فصول وخاتمة ، في الفصل الأول تناول حياة وأعماله، موضحا عبارة التفكير العلمي عند ريشنباخ، حيث رأى أن أن فلسفة ريشنباخ تتميز بعلاقتها الوثيقة بالبحث العلمي والرياضي، ففي مقابل الفلسفة التقليدية التي تبدأ إما من العيان الخالص أو العقل المجرد، نجد ريشنباخ يجعل نقطة انطلاقه صورة العالم كما ترسمها العلوم الطبيعية واهتم ريشنباخ بالعلوم الرياضية والمنطقية مما أدى إلى اعتماد فلسفته على التحليل المنطقي للرياضة والفيزياء على السواء.
واستعرض الباحث التطور العام لحياة ريشنباخ مع التركيز بشكل أساسي على تطوره الفكري، موضحا أنه "في الأعوام الستة التالية لتعيينه بجامعة برلين ( 1926 ـ 1932) وسع نشاطه كباحث ومحاضر بطريقة مكثفة وشاملة، مما أدى إلى تكوين جماعة بزعامته تسمى (جماعة برلين) أو (مدرسة برلين) التي انتظمت في شكل (جمعية للفلسفة التجريبية)، هذا من جانب ومن جانب آخر أوضحنا طبيعة موقف ريشنباخ تجاه كانط بوجه خاص والفلسفة النقدية بشكل عام وعلاقته بأينشتين.
وكانت نظرية المعرفة عند ريشنباخ محور الفصل الثاني من الكتاب حيث أوضح الباحث كيف أن نظرية ريشنباخ في المعرفة تختلف عن نظرية الوضعية المنطقة من عدة أوجه، فالوضعيون المناطقة يؤكدون في تفسيرهم لمبدأ إمكان التحقيق أن القضية يكون لها معنى إذا كان ـ إذا كان فقط ـ من الممكن التحقق من صدقها أو كذبها، فمبدأ التحقيق في نظر الوضعين المناطقة، هو المعيار الذي يحدد ما إذا كان للقضية معنى أم لا، والقضية وحدها هي التي يمكن وصفها بالصدق أو الكذب، وكل عبارة لا نستطيع الحكم عليها بالصدق أو الكذب تكون عبارة خالية من المعنى. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يؤكد الوضعيون المناطقة على أنه يكون للقضيتين المعنى نفسه إذا حصلنا بواسطة كل ملاحظة ممكنة على الصدق نفسه أو الكذب نفسه.
وأشار الباحث كيف أن ريشنباخ قد رفض هذه الوجهة من النظر على أساس أن تحقيق القضية الإخبارية يقتضي حتما أن يكون موضوعها جزئيا لكي يتسنى مراجعتها على الواقعة الخارجية التي تقابلها، وقال "ذلك لأن الوقائع لا تكون إلا جزئية المقدمات، فلن نجد في العالم الخارجي إنسانا بصفة عامة، بل سنجد أفرادا ولن نجد لونا بصفة عامة بل سنجد هذه البقعة الحمراء وتلك البقعة الصفراء، فإذا كانت القضية التي نحن بصدد تحقيقها كلية، وجب تحليلها أولا إلى ما ينطوي تحتها من قضايا فردية، وها هنا تأتي مشكلة عسيرة، إذ ليست كل قضية يمكن تحليلها إلى قضاياها الفردية تحليلا كاملا. لهذا السبب يعارض ريشنباخ نظرية صدق المعنى، ويدافع عن النظرية الاحتمالية للمعنى التي تقول إنه يكون للقضيتين المعنى نفسه إذا كانت لهما درجة اجتمال واحدة بواسطة كل ملاحظة ممكنة. وقد أعلن ريشنباخ صراحة اختلافه مع جماعة فينا فيما يتعلق بتفسير مبدأ إمكان التحقيق، ففي رده على فايجل أوضح ريشنباخ أن جماعة فينا قد أكدت أن القضية هي التي يمكن التحقيق من صدقها أو كذبها، في حين ينادي ريشنباخ بضرورة التخلي عن المطالبة بالتحقيق المطلق لكل القضايا التركيبية، وإلا سنجد أنفسنا مضطرين لاستبعاد بعض قضايا العلم، ويستعيض ريشنباخ عن التحقيق المطلق بسلم متصل من الاحتمالات".
وأوضح الباحث أن طبيعة المنهج العلمي لريشنباخ &يتميز بطابعه الاحتمالي، وأكد أن الجانب الأكبر من فلسفته يرتكز على مفهوم الاحتمال، فهو اهتم بهذا المفهوم اهتماما بالغا وكرس له معظم كتاباته، وأضاف "ريشنباخ يرى أن حصر المعرفة في إطار المنطق الثنائي القيم قد أدى إلى نتائج مؤسفة، إذ أدى إلى إغفال العديد من الخصائص الأساسية للمعرفة، كما سد الطريق أمام منهج التنبؤ العلمي، لهذا السبب رأي ريشنباخ أن النظرية الاحتمالية في المعرفة هي الحل الوحيدة لمشكلة تفسير البنية المنطقية للعلم".
وعرض الباحث &نسق المنطق الثلاثي القيم عند ريشنباخ ورأي أن المنطق التقليدي هو المنطق ثنائي القيم، فهو لا يعرف سوى قيمتي "الصدق" و"الكذب" ولاشيء بين الإمكانين، غير أن ريشنباخ اسم "قيمة اللاتحديد". ولقد أمكن إقامة المنطق الثلاثي القيم بفضل دقة وإحكام المنطق الرياضي الحديث. ويمكن تطبيق هذا المنطق الثلاثي القيم على التفسير الخاص بميكانيكا الكوانتم، في حين يظل من الممكن ـ كما كان الحال دائما ـ النظر إلى الأحكام المتعلقة بالحوادث التي يمكن ملاحظتها بوصفها إما صادقة أو كاذبة. أما الأحكام الخاصة بالحوادث غير الملاحظة فتعد أحكاما غير محددة.
وتناول الباحث في الفصل الأخير فلسفة الزمان والمكان حيث يؤسس ريشنباخ إجابته المتعلقة بالمكان والزمان ليسا كموضوعين مثاليين وإنما يشكلان نسق علاقات يعبر عن سمات معينة للموضوعات الفيزيائية وبالتالي يصفان الواقع الفيزيائي. وشرح كيف استفاد ريشنباخ من نظرية النسبية لأينشتين وما أدت إليه من انقلاب في المفاهيم العلمية والفلسفية على حد سواء. &&
&
التعليقات