شهد العقد السادس من القرن الماضي, تبدلات سياسية خطيرة, اثرت حتما على الواقع الثقافي ومختلف افرع الأداب والفنون في العراق, وقد ظهرت موجة هائلة من الفنانين المتمردين, وممن استطاعوا الاعلان عن رفضهم لسياسات العنت والجور والتخاذل, ولأنهم لا يستطيعون البوح بأفكارهم الرافضة فانهم استطاعوا تحقيق غاياتهم واغراضهم والتأكيد على مواقفهم من خلال فرص اشتغالهم على اجناس الاداب والفنون, وبذا فان جيل العقد السادس وكما اطلق عليه الشاعر (سامي مهدي) ب (جيل الموجة الصاخبة) الذي اخذ على عاتقه مهمة تأسيس مناهج جديدة من شأنها أن تنطوي على الرموز التي تخفي قصودا متمردة ورافضة لكل ما يتعلق بأمور الحياة وسبل الارتقاء بها نحو الغايات الامثل, وكان الفنان سعدي حسن اللبان من جيل الفنانين: رافع الناصري وعلي النجار وصالح الجميعي وعلي طالب, وكان يعد واحدا من ابرز الاسماء الفنية حينذاك, وكان يشارك في كل معارض الفن التشكيلي لعراقي المعاصر في الداخل والخارج, وكان له أيضا قصب السبق في عملية التحديث الفني والانتباه لمعطيات الفنون العالمية المعمول عليها في بلدان اوروبا واميركا.
فما هي الخصائص الفنية التي اشتغل عليها الفنان سعدي اللبان؟
ان المتتبع لمسارات الفنان سعدي اللبان, يجد نفسه بمواجهة زخم كبير من التجارب الفنية المتوزعة في مجالات الرسم والنحت والتصميم والكرافك, فهذه التنويعات اكسبته خبرات اضافية وسمحت له &بالمزاوجة ما بين هذه الاهتمامات, والكيفيات التي تسهم في ايظهارها لحيز الوجود كاعمال فنية مستقلة بذاتها, والفنان سعدي اللبان انجز سلسلة من اللوحات الفنية التي استثمر فيها طاقة المواد المعدنية كصفائح الالمنيوم والقطع الخشبية, مجسدا فيها مواضيع الانسان وحالات اغترابه ضمن محيطه وعالمه وكان موضوع الانسان (المطلق) هو محور لوحاته, وقد شهد له بريادته في توظيف المواد الاخرى الفنان الراحل محمد مهر الدين برسالة محررة كتابيا, وكما درجت عليه العادة في فترة الستينات, فان موضوع الانسان كان يحمل في جوانبه الكثير من القيم والرموز, وبهذه الحالة يكون موضوع الانسان هو الغرض والوظيفة, ذلك لانه العلامة الفارقة والموضوع السيادي في كل الاشتغالات الادبية والفنية التي كانت سائدة حينذاك ويمكن للمتلقي أن يبصر وجوها ادمية بلا ملامح ويصعب التفريق بين جسدي الانثى والذكر, وبصراحة ان فكرة الاقصاء والازاحة تتدانى من المناهج التجريدية المعنية بأقصاء المسميات وزحزحة معادلة الاشكال المرئية واجراء التحوير والتعديل عليها وكل ذلك ناتج عن ادراك القيم الحركية في مفهوم الزمان, وفي ذات الوقت بأن الية العمل على فكرة الاختزال والتجريد تقترن بمسوغات الوعي الثقافي للفنان وتملكه للرؤية الخاصة, المتداخلة مع الصيغ الادبية, شعرا وقصة ورواية, ولا نقصد بذلك بأن الفنان سعدي حسن اللبان يرسم بطريقة (الموتيف) تلك الطريقة التي تناغم النصوص الادبية, بل انه عندما يطلع على نص ادبي ويتفاعل معه ويحقق حالة من الانسجام والتماهي فأنه يخضع تصوره لاغراءات النصوص الادبية الممهدة للفنان لكي يولد نصا صوريا من رحم هذه النصوص الادبية, ولعل الفنان ومن خلال التأمل والتحليق في سنواته المفعمة بالاحداث والمتغيرات ومن خلال فتح ذاكرته الشخصية واعادة استقراء يومياته, سيجد نفسه بمواجهة وجوه تألف معها ثم غادرته, وعند لحظة استرجاعها ستأتي اليه من خلال موشور الذاكرة على هيئة غير مطابقة مع الاصل أو مشوشة او انها قليلة الدقة لأنها تأتي اليه من خزانة الذاكرة البعيدة فتبدوالوجوه بلا افواه وبلا عيون, ولكننا قد نقرأ فيها تعبيرات موحية بالصدق والصراحة والوضوح,رغم وجود التموية الادغام.
ان الفنان سعدي حسن اللبان, متفرغ تماما لمزاولة الفنون التشكيلية وعلى الرغم من كونه بعيد عن الاضواء الاعلامية, غير انه يلجأ باسلوب تحديث ذاته واعادة ابتكار شخصيته, وذلك يتم من خلال الرسم بالالوان الزيتية والاكرلك وتجريب مواد النحت وانجاز بعض التصاميم ومتابعة اخبار الفن في العراق والاطلاع الحثيث على تحولات الفنون في العالم, وبهذه الحالة فأنه اختار هذا الاسلوب من الاشتغال الفني, ليس تهربا من الحياة اليومية الواقعية المفجوعة, والواقعة تحت ضغوط السياسة المقيتة التي صنعت تاريخ الاسى العراقي, بل ان الفنان منهمك على الدوام بتقصي حقائق الوجود, اجتماعيا وثقافيا وتاريخيا, ولو اننا استطعنا التبصر في عطاءاته الفنية لوجدنا فيها ذلك الطابع السردي أو الحكائي المسوغ بمعايشة حالات الحزن الطاغية وكل الوجوه, وكل الاشخاص وبمختلف حركات اجسامهم يغلب عليهم طابع الوجوم المعبر عن وجود اسئلة حائرة لم تعثر بعد على اجابة شافية, وتلك هي اسئلة الوجود والحياة والحب.
يبدوا لي: ان الفنان سعدي حسن اللبان, عندما يفكر بانجاز عمل فني معين فانه يجري حوارا سريا مع المواد الخام التي يتعامل معها ويصنع منها اشكالا ثم يضخ فيها طاقة تعبيرية وكل ذلك يجري على وفق اسس تصميمية وقواعد ضبط اكاديمية وبالمحصلة فأنه ينتج نصا صوريا منفتحا يحتمل القراءة على انحاء شتى, ربما يضع لنفسه حسابات هندسية خاصة بغاياته والجدوى من عمله ولكنه لا يتمسك برؤيته بطريقة استبدادية متعنتة, وان الكيفيات التي تسمح له بتمرير رؤاه الفلسفية ومواقفه الانسانية, هي ليست قرارات حاسمة بل انها تتجمل بالمفاهيم الديناميكية والاستاتيكية لان منطق الاشتغال على الفن يقترن دائما بالفكر المتحرر من العقد والشواغل, فكل الافتراضات والاحتمالات الخاصة بتفسير او تأويل العمل الفني تخضع دائما للممكنات الذهنية والتصورية للمتلقي, وبهذه الحالة يشارك المتلقي في ايجاد الحلول المنطقية التي تثيرها اسئلة العمل الفني, ومن هنا تتأتى جدلية منطق الفن المشيد على الاسس السليمة, والفنان سعدي حسن اللبان لا ينتج وسائل ايضاح معرفة القصود والغايات, بيد انه يصنع لوحة مستوفية من جميع عناصرها, محققا بذلك وحدة انسجام موضوعية تؤاصر بين توظيفات المواد الخام والعناصر اللونية وبين بنى الاشكال او تقويضاتها وبين المحتوى المراد تحقيقه كغاية اساسية أو كموضوع سيادي, ومن الصعب لدى الكثير من الفنانين تحقيق هذه الوحدة الموضوعية لانها تتعلق بموقف الفنان من الفكر الجمالي الحر واطلاعه على تاريخ الفن العام منذ عصر الكهوف وحتى وقتنا الحاضر.
ولان الفنان سعدي حسن اللبان, متفرغ لمزاولة الفن فأن طبيعة عمله تكاد ان تتشابه الى حد ما مع اعمال المتصوفة أو الرهبان في معابدهم مع الفارق في ان الفنان سعدي حسن يفكر بطريقة لا تعبدية ولا اخروية, ولكنه ينظر لمجريات الحياة على وفق منهج دنيوي ولكنه منهج مهذب ومتداخل مع ذاته وفردانيته التي تطمح لبلوغ اعلى قدر من الانسانية والمحبة وانشاء مشروع للسلام والامل, وبذا فان الفنان سعدي حسن اللبان, عندما يروم تجسيد موضوع معين فانه يرتدي جناحيه الفضيين ويحلق بعيدا في سنواته الفتية, يستجلب منها اناشيده ونغماته وقصائده واحاكي الناس الطيبين, ومن خلال الالوان وادوات التنفيذ يبلغ نجواه ويحرر المواضيع المتفاعلة مع اليومي في الحياة. & &&
&