السمك والصيادية أبرز ملامحها "الثلوثية" ليلة الهجرة إلى الشمال
خروج جماعي لسكان جدة ليلة الثلاثاء فرارا من رتابة الأسبوع وضجيج المدينة


خالد ربيع السيد منجدة:إن لم تكن من قاطني مدينة جدة التي يحلو لأهلها إطلاق لقب ( عروس البحر الأحمر عليها ) وجئتها زائرا في أحدى ليالي يوم الثلاثاء من أي أسبوع في السنة، وخرجت للتنزه على كورنيشها الشمالي،أو سلكت الطريق المؤدية إلى المدينة المنورة. يلفت انتباهك الجموع الهائلة من الشباب وقد تحلقوا حول بعضهم في جلسات دائرية على أرصفة الكورنيش، أو وهم يملؤون الاستراحات والمقاهي والكازينوهات المنتشرة على قارعة طريق المدينة المنورة أشهر شوارع المدينة التي اكتسبت مسمى ( جدة غير ) في السنوات الأخيرة نظرا لاختلافها عن معظم مدن السعودية من حيث طبيعة الحياة الاجتماعية، وتميزها بالتسامح وتخلصها من معايير المحافظة الاجتماعية الصارمة التي تحدد قسمات مختلف المدن الأخرى، وهذه هي طبيعة المدن الساحلية على مر التاريخ.
تمتد هذه الجلسات بدأً من نهاية حرم المطار القديم الذي اصبح في وسط المدينة منذ افتتاح المطار الحالي قبل ربع قرن، وحتى حدود قرية"عسفان " على بعد حوالى 70 كيلو متر عن جدة.
تقدم في تلك الاستراحات والمقاهي مشروبات الشاي بمختلف أنواعه من الشاي الأحمر، والأخضر، والنعناع، والكركديه الذي يطلق عليه الحجازيون ( كوجراتي ) اضافة إلى المرطبات والشيشة التي تنقسم إلى نوعين أولها مايسمى ( جراك ) وهو نوع من التبغ القوي واشهر مورديه في السعودية باعشن، لذا يطلق عليه ( جراك باعشن ) كماركة تجارية، أما النوع الثاني فهو ( المعسل ) وهو نوع من التبغ مختلف يتميز بوجود نكهة الفواكه فيه مثل التفاح والعنب، ويعتبر المعسل حديثا على المقاهي السعودية إذ لا يتجاوز عمر وجوده العقدين، وهو أحد تأثيرات ثقافة المقاهي المصرية.
كما تقدم بشكل خاص وجبة ( الصيادية ) وهي عبارة عن طبق أرز يميل لونه إلى البني الغامق، يصنع بطريقة خاصة تشتهر به مدن الساحل الغربي في السعودية، ويدخل في صناعته بشكل رئيس البصل المحروق مع صلصة الطماطم، ويؤكل مع الأسماك المقلية أو المشوية وبعضهم يفضلها مع الجمبري أو ما يعرف في منطقة الخليج بـ ( الروبيان ).
في هذه الأجواء حيث يجتمع الأصدقاء، للمسامرة والترويح عن النفس، يتجاذبون أطراف الحديث والحكايات،وتزداد الرغبة في "الفضفضة" والضحك يخرج صافيا من القلب.
ولا تخلو هذه الجلسات من الثرثرة وتبادل الآراء حول أحداث الساعة التي يتركز أكثرها حول مباريات كرة القدم ونتائج الدوري و أخبار الأسهم وأحوال الشركات، كما لا يخلو الأمر من عقد صفقات "البزنيس" وأفكار المشاريع الجديدة،وترتيب السفريات الخاطفة لتلك الدولة أو ذاك البلد، وتحضر لعبة الورق الأثيرة المعروفة بـ (البلوت) ذات الأصل الفرنسي كقاسم مشترك لغالبية الجلسات،
بينما قد تجد مجموعة أخرى من الشباب قد تحلقت حول أنغام العود وممارسة الغناء. بينما قلة محدودة تبحث في الشأن الثقافي والحراك السياسي.
إنها "الثلوثية"، حراك اجتماعي رجالي متكامل يتم في تلك "السمرة"، وأهم ما فيه الالتقاء. وفي ختام "الثلوثية" يكون موعدهم مع مأدبة عامرة من أطايب"أكلة الصيادية والسمك".


يؤكد إبراهيم الأحمدي الموظف في الخطوط السعودية، على أن "الثلوثية" عادة قديمة ابتكرها أهل مكة وجدة منذ سنوات طويلة، حيث تآلفوا اجتماعيا على ما سموه ( كسر الأسبوع ) حيث يوافق يوم الثلاثاء منتصف الأسبوع منذ أن كانت الإجازة الأسبوعية يوما واحدا هو يوم الجمعة وكانوا في الزمان القديم يسمون هذا التجمع (البشكة ) مجموعة الأصدقاء بالتعبير الحجازي ففي بيت أحد الأصدقاء، يجتمعون بشكل دوري، بحيث يستضيف كل واحد منهم الجميع في بيته، وهكذا تدور الدائرة على الباقين، ولذلك ربما تسمت تلك العادة في فترة سابقة بـ (الدورية )..
يضيف الأحمدي ( بالطبع.. لقد رسخ وجود هذه"الاستراحات السمكية" في شمال جدة هذه العادة الاجتماعية الجميلة، وأعتقد أن اختيار ليلة الثلاثاء جاء مناسباً لفئة الموظفين المتزوجين، حيث يتفرغون في أيام الخميس والجمعة للشؤون العائلية ).

غير أنه يوضح ( ارتباط "الثلوثية" مع أكلة السمك يعتبر تقليداً حديثاً. ففي السابق لم يكن ذلك شرطاً أساسياً، لأن الـبشكة تحدد،ببساطة، نوع "العشوة" ( وجبة العشاء )،حيث يكون الالتقاء هو الأهم وليس الأكل، وعلى أية حال والكلام للأحمدي كانوا في السابق يفضلون "الرز السليق" أو "الكبسة" أو المشويات بطرقها المتعددة سواء الحجازية "كباب الميرو" أوالتركية"شيش كباب" أو الأفريقية ( السيريه ) وإن كان بعضهم يفضل "الدندن" الجاوي وأحياناً "اللحم المقلقل"البلدي أ و"الشيّة" السودانية أو المبشور وهو كباب يطهى على الحجر بطريقة حجازية مع اللبن والثوم، وله لحمة خاصة تستل من ظهر الذبيحة، ولكن تقليعة السمك هذه جديدة في عالم البشكات ).

( لم يكن الأمر سهلاً عندما بدأنا في ترتيب "ثلوثيتنا" قبل حوالي 14 عاماً، كنا نقطع مسافة تقارب المائة كيلا شمال مدينة جدة، على طرق المدينة المنورة. حيث نذهب إلى بلدة "ثول" الشهيرة بالمصايد وحوانيت السمك الطازجة.. كان يوجد مقهىً شعبياً و وحيداً على قارعة الطريق القديم، يقدم وجبة السمك المقلي والأرز بطريقة الصيادية،وكانت تتم "الثلوثية" في ذلك المقهى ) هكذا تحدث شوقي جيلاني ( موظف في جامعة الملك عبد العزيز)، عندما سألته عن تقليد "الثلوثية". وأردف قائلاً ( نحن نفضل الابتعاد عن المدينة وعن ضوضائها، لذلك نستمتع ببعد المكان، هذا في حد ذاته هدفا هاما "للثلوثية"، ولا تنسى أن المناطق في شمال جدة تمتاز بالهواء العليل معظم أيام السنة ).
ويفسر مازن بن ظافر تواتر هذه العادة بقوله ( نحتاج إلى الخروج من جو العمل،ومن زحمة الشوارع ومن ارتباطات العائلة وهموم الحياة بشكل عام. نحتاج إلى الالتقاء ببعضنا، إن لقاء الأصدقاء له مفعول السحر في غسل الروح وتجددها، صدقني.. وختم "بن ظافر" كلامه ضاحكاً : نحتاج إلى"أكلة سمك محترمة" يا أخي ).

ويبرز "سمك الحريد" كأحد أهم أنواع السمك التي تفضلها الغالبية، فيما يفضل الآخرون "أسماك الناجل" أو"الهامور".. ويأتي تفضيل "الحريد" لعدة مزايا أهمها مذاقه اللذيذ ولحمه الطري، واعتدال سعره، وتوفره معظم أيام السنة، في حين يضطر عشاق "الناجل" إلى دفع مبالغ تقترب من الضعف للحصول على الكيلوجرام في أيام الندرة وأيام حظر الصيد.

يلفت الانتباه ذلك التنوع وكثرة "الاستراحات السمكية" كما أصطلح على تسميتها التي تعمر بالرواد في كل ليلة ثلاثاء، بحيث صار أصحابها (يتفننون) في إنشاءها وفق تصميمات رائعة، مزودة بالنوافير وشلالات المياه الاصطناعية، وتحفها الأشجار والخضرة من كل جانب، وقد عمد بعضهم إلى توفير كبائن وحجرات على مستوى راق من الفخامة والنظافة والخصوصية، وزودوها بمدن ملاهي وملاعب وأراجيح للأطفال، وذلك في محاولة ناجحة لاجتذاب العائلات في غير ليالي الثلاثاء.

يقول مدير أحد هذه الاستراحات ( لقد تغلبنا على مشكلة الركود في باقي أيام الأسبوع، بحيث أصبحت الاستراحة ملائمة ومغرية لارتياد العائلات طوال أيام الأسبوع، وهذا بدوره أنشأ عادات لدى بعضهم، بحيث صاروا يفدون إلينا في أيام مختلفة.. فصار هناك أحدية وأثنينية وربوعية وسبتية وخميسية، إضافة إلى أيام الجمعة التي يفضلون الحضور فيها وقت الغداء أو عند أول المساء،بغرض الترفيه عن أطفالهم في المسابح والملاعب، ولكن كما ترى أن ليالي جدة كلها أصبحت "ثلوثيات" وكل المقاهي والكازينوهات والمنتزهات غدت استراحات ومتنفسات مزدحمة بالرواد على مدار الأسبوع ).

يمكن القول أن الثلوثيات بإرتباطها بعناصرها الثلاثة الأساسية كونها أولا عادة ذكورية وثانياً تستوجب الخروج من البيت و وجود الطعام والمكيفات من شاي وشيشة. ما هي إلا ملمح من ملامح إيقاع الحياة الاجتماعية المتطلعة لتكريس حياة مدنية في هذه المدينة الصاخبة حتى وإن لم تكن المرأة حاضرة فيها بقوة وفقا لما تقتضيه شروط الحياة المدنية الحقيقية.