دلور ميقري

مشاهدٌ فاغِرة

من يهب طيركَ الزريابَ، ريش الذاكرة
من يشكّ في دربِ تبانتك فِرقدَ الشكّ، تخرقلُ بهديه غسَق الحاضرة
من لك بمغرفة السلوان الفضّة، لتغترف من قصعة الحنين ما شاء لكَ الحنينُ
ومن لك بعسيل quot; برو العطّار quot;، لتجتني غيضة ً غيضة، غريفَ الغوطة الأغرّ
صخرة ً صخرة، العبيرَ الحالق للجبل
نبعة ً نبعة، مسيَلَ نهر الفردوس الأول
كيف الطريق إلى أوابد مسقط رأسك، ولم تتوفر حتى على مخطط لمعالمها الغابرة :
قلتَ، أنها مجرد مغامرة ( وكلّ كشف مغامرة ).

كم دزينة من الفصول الضائعة، سجّتْ ذلك الخريف الذي شهدَ جولتك / حومتك المنطلقة من سفح الحيّ المتفيّء اسطورة quot; قاسيون quot;؛ أنتَ المغرم برفقة المخطوطات الهرمة، المتلاصقة بحنو، والمتمايلة على أرفف مكتبتيْ دمشق، الأكثر قِدماً؛ quot; الظاهرية quot; و quot; العادلية quot;. هوذا إنحدارك بإتجاه الجادة الرئيسة، المشعشعة بوهج الشمس المشرقة للتو، المتململة في عرش سماويّ تغير عليه سحبٌ تشرينية، فيروزية أو فضية؛ quot; جادة أسد الدين quot;، أو الطريق السلطانيّ بلغة العامّة، التي تضرب خطاك على أرضيتها البازلتية، متحاذية والبيوت المتناعسة المغمور جدرانها بدفء مقتر؛ جادّة، تنبئك أحجارها أنّ لإسمها مجدٌ غابرٌ، تقمّصَ إسم فارس مغبّر، عمره ألف عام من الحضارة : quot; أسد الدين شيركو quot;؛ الذي يطوّف طيفهُ في هذي الدروب الأثرية، متطايراً منه لهب التصميم والعناد لرجل مغامر، أورثَ طموحه لإبن أخيه الفتيّ quot; يوسف quot;؛ المعروف في العالم بإسم صلاح الدين. أين الطريق إلى أوابد مدينتكَ، والجادة هذه تمتدّ شرقاً إلى quot; رأس الحارة quot;، وغرباً حتى quot; صالحية الأكراد quot; : حتى القدم الملفوفة بالقطن؛ المعجزة الخرقاء لأحد أشهر أولياء الحيّ quot; بمبو بابا quot;.. حتى أشباح الأسلاف، التي ما تلبث أنتَ أن تجتاس أثرها، وفي أسماعك يصدى صوتها.

quot;جسر النحّاس quot;، إسم حارة؛ وهو قبل أيّ شيء، قنطرة حجرية، محايدة، تفصل بين عصريْن. ظهرها يتقوّس على النهير، كسميّها؛ العجوز المتهالك، الشيخ عماد الدين إبن النحّاس؛ الأمير الأيوبيّ المعترف به في زمن مماليكه، السلاطين؛ أميرٌ إبتنى في الحيّ، أيضاً، جامعاً وحمّاماً، و في ذات البقعة الطفلة، المتسلقة على كتفيْ نهر quot; يزيد quot;، والمتعابثة بصخب مع شجيرات الصبّار والسماق والصنوبر. أن نتورّط في توغلنا عبر الجادة المزدحم جانبيها بالمحلات والدكاكين والمتاجر، معناهُ المرور بجانب شبح ٍ لا يقلّ هرماً عن سابقه؛ عجوزٌ من عهد عثمانيّ متأخر، هو شمدين بك، زعيم أكراد الشام في منتصف القرن التاسع عشر، والذي حارب تارةً بصفّ الخليفة العثمانيّ واخرى بجانب خصمه إبراهيم باشا المصريّ؛ من أعطى إسمه للعَرصَة المسماة quot; ساحة شمدين quot;. من طرف هذه الساحة يتناهضُ مقامٌ مسنّ، مشرئباً برأس قبته، الأقرع، فوق موقف الحافلات القريب، مسلّياً شيخوخته الحجرية بتأمل العابرين؛ اولئك اللامبالين به، وغير العارفين، أصلاً، بأنّ صاحب المقام، ركن الدين منكورس، هو من تقمّص إسمَه حيّهم الكرديّ، الشعبيّ؛ حيّ كان، للمفارقة، قد أسسه رجال صلاح الدين، ممن أضحوا فيما بعد، الطبقة الارستقراطية الحاكمة، الأيوبية. هذا المقام، المتأنّق بحجارته المنحوتة، والمتألق على بقية مدارس العصر الأيوبيّ _ المملوكيّ، ومنذ شهادة المؤرخ الدمشقيّ، إبن طولون الصالحيّ؛ والتي تفيدنا بأنه كان معهداً دينياً بارزاً، عُرف ب quot; المدرسة الركنيّة quot; (1). كان ركن الدين، هذا، أميراً أيوبيّاً بارزاً، وفضلاً عن مواهبه الحربيّة والإداريّة، إهتمّ الرجل بالأمور الفلكية وبنى مرصداً في بستان quot; الميطور quot;، أسفل الحيّ، والذي كان من أملاكه وفيه قصره. على أنّ كل ذلك إندثر، ولم يتبق سوى المقام المحتبي رمسه والمدرسة التي تحمل إسمه. وهذا الرحّالة الأندلسيّ، إبن جبير، يزور دمشق ويتحمّس للمدارس والمعاهد المكتظة بها، منوّهاً بفضل صلاح الدين، الذي أمر بإنشائها لأهل العلوم والفنون والطبّ والفقه، قائلاً أنّ الواحد منهم يفدُ من الأقطار النائية : quot; فيلقى مسكناً يأوي إليه ومدرّساً يعلمه الفنّ الذي يريد تعلمه quot; (2).
كأنما الساحة، تلك، quot; شمدين quot;، عينُ الحيّ العثمانيّ؛ أين شقيقتها المتجاورة معها، quot; ساحة الميسات quot;؛ هي عين الحيّ الأيوبيّ، بمقاماته ومدارسه وقبابه وحماماته وقيسارياته وخاناته ومكتباته..؛ وكأنما مقام quot; بمبو بابا quot;، هو تعويذة لهما من شفعَة الزمن. ساحة ٌ، إذاً، تسلمنا لأختها؛ حارة ٌ تفضي بنا إلى شقيقتها : ها نحن في المستوطنة الاولى، الدمشقية، لبني أيوب؛ حارة ذات إسم مثلث quot; الأيوبيّة، صالحيّة الأكراد، الحارة الجديدة ( جديدة!؟ ). ثمة عَرَصة اخرى، منزوية بين مقاميْ quot; الركنية quot; و quot; الصاحبة quot;، تبدو كسرّة الحارة، الحسناء؛ أين الطريق السلطاني ودرب سوق الجمعة فخذاها المتطاولان حتى الصدر المرمر ِ، الموشى بمائة ثدي ٍ/ مقام ٍ ومائة حلمةٍ / قبة ٍ. هذه المستوطنة، أضحت نواة مدينة اخرى، عظيمة هي quot; الصالحية quot;؛ ضرّة لدمشق القديمة، المحصورة داخل أسوارها. على أنّ الزمن كادها بمعوله وتشوهاته، فزالت معظم معالم الحاضرة الأيوبية، ومعها تلك المقبرة الملكيّة الشهيرة، التي كان مقام quot; الوليّ القطنيّ quot;، حارسها الخرافيّ.
داحَ قدْرُ هذا المقام وصاحبُهُ الملغز، في أرض ٍ أثيرة على أولياء الله؛ ممن تتناثر مزاراتهم ومشاهدهم في الأزقة والحواري والساحات؛ فعرفه أبناءُ المدينة بإسم quot; مزار الأكراد الأيوبية quot; (3). وأبعد كثيراً من تلك الأرض، إنتشرت اسطورة الوليّ، ذي القدَم المعجزة؛ فما مرّ حاجٌ آسيويّ بالشام الشريف وهو في طريقه للحجاز، إلا وعطفَ على المشهد الفاغر على العظمة الملفوفة بالقطن والمطوّحة خلل حجر القبر؛ اسطورة طريفة، تزعم ُ أنّ فقيهاً من العرب العاربة، وقفَ مرة ً أمام المقام، فسخر من صاحبه قائلاً : quot; كرديّ دبيّ، ولو كان نبيّ! quot;، وأنّ هذه الشتيمة quot; أثارتْ quot; وليّ الله، فأخرجَ قدمَهُ في وجه شائنه. القدم نفسها، التي راشتْ قطنَها بوجه طفولتنا، حينما كانت قبّة صاحبها قِبلة الأهلين، مشرعة الباب للشفاعات والصدقات. ولا بدّ أن تبلغ الحكاية كمال طرافتها، حينما نعلم أن أسرة شيوعيّ بارز في الحيّ، هي التي كانت تتعهد الوقفَ؛ بوقوفها على شجرة أنساب تتصل بنسبٍ قطنيّ، مبارك. بيْدَ أنّ الغموضَ ما انفكّ يحيط بسيرة وليّنا الكرديّ، دون أن يجليه تلك الإشارة اليتيمة، عن نبيّ يدعى quot; ذو الكفل quot;، كان على ما يبدو باب الشفاعة الأكبر للسلطان صلاح الدين (4). على أنّ ذلك الباب سُدّ بقطع من الطوب الفظ، منذ اواخر ستينات القرن المنصرم، وبأمر رسميّ، تبعه إحداق الأبنية الحديثة بالمكان المشوّه، المنطلس البركة.

quot; سوقُ الجمعة quot;؛ مساءَ خميس ٍ

المساءُ كرمٌ، برقتْ نجوماً زمعاتهُ. يبدو quot; سوق الجمعة quot; عند الغروب، كغوطة أضواء وظلال؛ متناوبة quot; اشجاره quot; ألوان الليلكي والوردي والأزرق؛ كلّ مأذنةٍ سروة ٌ، وكل قنطرةٍ زيتونة ٌ. بدورهِ، يتراءى جبل quot; قاسيون quot;، مثل قبّة ليل عملاقة؛ هلاله قمر المحاق الفضيّ، وإفريزه أطناف دور quot; الشيخ محي الدين quot;، الأكثر علواً. جبلٌ ليلٌ، قاعدته تحت قدمي، حيث ظلّي المتطاول بفعل أنوار المدخل البهيج للسوق؛ أين العرَصَة الفسيحة المطلّ عليها مزارُ quot; الصاحبة quot;. ما فتيء هذا المزارُ على حظوته لدى العباد، ما ظلّ بابه مفتوحاً لوجه الله. أتأمل واجهته العتيقة، المنارة بمصابيح كهربائية حديثة : ما أشبه المدخل بمحرابٍ متقن النحت دقيقه. قبته تعلو السور البديع، المزخرف كأسنان قلعة حصينة. هاهنا، إذاً، مقامُ quot; الصاحبة quot;؛ مزار نسوة الحيّ، الأثير.. بركاتكِ، يا خاتون!
يتناهى في ذكر المرأة، صدى صهيل الفرس الأدهم وصليل الحسام الإفرندِ؛ ترددُهُ الأزقة المضاءة المعتمة، بألوانها وظلالها : كانت ربيعة خاتون، شقيقة صلاح الدين، قد آبت نهائياً من quot; اربيل quot;؛ موطن الأسلاف ومستقرّ رجلها، مظفر الدين كوكبري؛ بطل معركة quot; حطين quot;، الذي بقي حاكماً لكردستان إلى أن توفي. تعودُ أرملتهُ، إذاً، إلى منزل الطفولة، في quot; الكلاسة quot;، خلف المسجد الأموي، حيث تفتحت عيناها على مجد عائلتها العسكرية. على أن رمسها شاء أن يكون، بحسب وصيتها، في المدرسة التي كانت قد أمرت ببنائها من مالها الخاص؛ مكرسة إياها لأصحاب المذهب الحنبلي ّ، المتفرّدة عن قومها بإعتناقه. ولقبها quot; الصاحبة quot;، وُجد مثله لدى غيرها من نساء البيت الأيوبيّ؛ اللقب الذي إحترتُ في مغزاه، إلى أن إهتديت لمصدره عند الشيخ الشطي، صاحب كتاب quot; أعيان دمشق quot;؛ وفيه أن : quot; الصاحب quot;، على قاعدة الأكراد حيث جعلوه للمتاز في أقرانه quot; (5). وكانت شقيقتها، زمرد خاتون، من أشهر حاملات اللقب الصاحبيّ؛ وهي المعروفة بإسمها الفريد quot; ست الشام quot;، ولها مقامٌ لا يقلّ أبهة في المدرسة الحاملة إسمها والضامّة رمسها، فضلاً عن قبور تورانشاه شقيقها وأولادها وزوجها. وهذا الأخير، هو إبن عمها، الملك القاهر؛ من قهرته الخمرة ذات إصباحة من فجر عيد الأضحى، فمات من إكثاره لها..!

ولكن السوق الساهر، المغمور بالجلبة والأضواء، لا يبالي بالقبور وساكنيها من ملوك وأمراء وأولياء.. فله سلاطينه، هو الآخر؛ كهذا الزبال الملثم أبداً، والمعروف ب quot; الكفر سوساني quot;، الذي يحاذي، الآن، موقفي قرب الدكة الخشبية لمطعم quot; بوز الجدي quot;، الشعبيّ. يزيح الرجل جانباً من لثامه، طالباً من البائع صحناً من quot; الفول بشمنة quot; : ويقصد بلهجته الدمشقية المعتقة، الفول بالسمنة! البائع ذو الصيت المعروف في المدينة، يلتفت لمن حوله مشيراً بأثر الزبال، المغادر للتوّ مع صحنه : quot; لديه محل لبيع الأثاث القديم، في هذا السوق نفسه، ولا يجد بأساً من العمل في البلدية، طمعاً بالراتب.. تفو quot;. أسطورة اخرى، في هذا الحيّ القديم، أم أنها إحدى المثالب quot; الشامية quot;، التي يضربُ بها الأغرابُ المثل ؟

كلّ ليلة خميس ٍ، عيدٌ. يسهرُ السوق ويُسهّر أحياءه وأمواته، محلاته ومزاراته. لا يأبه بالوقت، إلاّ ما كان من مواعيد الصلاة الخمسة؛ وختامها الفجرُ ختامَ يومه الحافل : يتصاعدُ حينئذ آذان الصوت الشديّ للشيخ المنشد، توفيق المنجّد؛ المبثوث مسجلاً من منارة quot; الشيخ محي الدين quot;، والمنقول عبر الإذاعة المحلية؛ الآذان، أيضاً، طقسٌ مراقبٌ من لدن الأجهزة الأمنية، المتيقظة، الحاصية أنفاس الأحياء والأموات. صوتُ المنشد، المنجّد، يأتي دوماً عميقاً، نقياً، ساحراً، تهتز لوقعه أفئدة البشر والحجر؛ فلا غرو أن تكون أناشيده، الصوفية، أثيرة على مجالس الأقداح والمدامة! الأصوات هنا، لباعة وزبائن غالباً، متنافرة، متناشزة، ينسّقها الظلامُ في سلام أضوائه وأنواره وظلاله، فتتناهى متناغمة في الأجواء، مهيمنة على سماء المدينة النائمة. السوقُ quot; مايسترو quot;، أيضاً.

وكما الأمر مع الأصوات، تتآلفُ الجماليات المرئية، أيضاً. فالفنّ الأيوبيّ العريق، الغالب على عمارة الحيّ؛ من مدارس وقيساريات وخانقاهات وحمامات.. تجدُهُ منسجماً مع ربيبه، المملوكيّ، ليشكلا وحدة فنية مميّزة؛ حالُ النماذج الأصيلة من الآثار التي تعرضت للتلف والتخريب أثناء الإجتياح المغولي والتتري، والتي إنبرى المماليك إلى ترميمها محافظين على رونقها وروحها. وقد حاول التقليد العثمانيّ مجاراة من سبقوه والإضافة إليهم؛ على أنّ محاولته لم تثمر سوى نماذج مدجنة. وهاهو مقام ُ quot; إبن عربي quot; يتعكز على مدخله المشوّه؛ مذ تناوله بالتجديد أمرُ الغازي التركي سليم الأول، لدى مروره الظافر في الشام. إبن عربي، إمام الصوفية، والذي بالمقابل، كانت دعوته أكثر جدّة وإنتشاراً زمن بني عثمان؛ فرغم أن خرقة طريقة quot; الشيخ الأكبر quot;، ظهرت في دمشق أيام الأيوبيين، إلاّ أنّ نارها لم تؤرث سوى في زمن العثمانيين، الزاهرة فيه مختلف الطرق والفرق الصوفية : كان مقدراً لسرّ إبن عربي، الإلهيّ، أن يُحفظ في جسد مريد كرديّ، فقير؛ هوquot; النقشبنديّ quot;، الذي ما لبث، بدوره، أن أضحى quot; قطب quot; عصره.

أنحاشُ عن المداميك الأثرية، المطلة على الدرب الممتد بين quot; الأيوبية quot; و quot; الشيخ محي الدين quot;، ملاحظاً أن الحياة الإقتصادية في صالحية العصر الأيوبي، وما تلاه، قد تركزت هنا، في سوق الجمعة. ولابدّ أن إتساع رقعة البناء، الحاصل في زمن متأخر، عجل بزحف الدور الشعبية من طرفيْ جادّة السوق، صعوداً نحو المرتفعات الجبلية معانقة صخورها. ملاحظة اخرى، تسنى لي تسجيلها؛ وتتعلق بأسماء المدارس الأثرية. فقد أضيف إلى معظمها عبارة quot; البرانية quot;؛ مما يشي بوجود شقيقة لهذه المدرسة أو تلك في داخل أسوار المدينة؛ أي quot; جوانية quot;. وعندي أن هذا الأمر، لهو دليلٌ على ما كان يوليه بنو أيوب لحارة بني قومهم، الأصلية، من إهتمام خاص. لعل أول quot; برانية quot; دوّمتْ أجنحة جولتي حولها، كانت quot; المدرسة الأشرفية quot;. واجهتها ذات القوس الحجريّ، تشابه مدخل quot; المدرسة الركنية quot;، آنفة الذكر. ولا تزال الرخامة الاولى، الحائلة، تحمل بصمات بانيها، الملك الأشرف؛ الحاكم الذي ملَكَ في حياته الرها وخلاط وميافارقين وحلب، وشاء أن يتألق حياً وميتاً؛ بأن أوصى لراحة روحه بمقام ٍ لصيق ٍ بالجدار الخارجي للجامع الأموي، شاركه فيه عمّه الكبير، صلاح الدين. وهاهو شقيقه، الملك المعظم، يهوّم مطرقاً متفكراً، مغادراً مراقدَ أهله في quot; المدرسة المعظمية quot;. تبصرُهُ عينا خرافتي، لحظة عبوره الدروب العتمة وهو في طريقه إلى دار أستاذه، الفيلسوف الطبيب تاج الدين الكندي، الكائن في باب جيرون ( شرقي الجامع الأموي ). يتأبط مجلداً عظيماً، لعله كتاب quot; الشاهنامة quot; للفردوسي؛ ملحمة ايران الكبرى، التي عرفتْ ترجمتها الكاملة، الوحيدة، في أيامه؛ حينما أمر مترجمَهُ الفتح البنداري بنقلها إلى العربية. وهو ذاته، ملكاً معظماً، تركَ لنا ديوان شعر وكتاباً في العَروض وآخر في الجدل الفقهي. لا غرو، إذاً، أن يقول العلامة الدمشقي المعاصر، خليل مردم بك، عن هذا الملك : quot; بأنه كان في بني أيوب، مثل المأمون في بني العباس quot;. (6)

أعود بأدراجي من السوق، ما أن تبوّج في الحلكة المقيمة نذيرُ البرق. آيستُ من الإهتداء إلى ضريح المؤرخ الشاعر، إبن خلكان، وسط غابة الأضرحة المسماة quot; مقبرة الجوعية quot;؛ نسبة إلى quot; مغارة الجوع quot;، المطلة على المكان. لم ألبث إلا قليلاً في خيبتي، فقد خيّل إلى عين خرافتي، ثانية، رؤية الرجل؛ أو الأصح، شبحه الهائم، الثمل، المتأثر مثلي، سواءً بسواء، خطى ملكنا المعظم، الهادئة الحالمة. غريبٌ آخر، هوذا؛ من إستنفض تاريخ مدينتنا وإستنطق ذاكرتها، مدبّجاً نثراً وشعراً مطرف دمقسها. ولكنه إبنُ المدينة، على أي حال، إبنُ خلكان هذا، المصرّ على مناكدة خصومه بإدعائه النسب البرمكيّ. أبصره في مشيته غير المبالية؛ هو المستهتر والمنحي جانباً أقاويل الأهلين عنه، لا تأبه شطحاته بتزمتهم الضروس، المستشري عبْر السنين الأموية، المخلّدَة؛ ولا يهتزّ منصبه الدينيّ، كقاضي الشام، بما أشيع عن معاشرته الغلمان والتصبب بهم بشعره، وكذلك شربه للحشيشة : quot; ولكنني أحب الخمرة الحرّيفة أكثر! quot;، يردّ عليهم شاعرنا، متماجناً (7). في محاذاتي لسيره تحت قنطرة حجرية، مضاءة بمصباح شحيح، وددتُ إعتراضه بمساءلة؛ عما دهى لعلاّمة الفقه والحديث، المستبدل مشكاة الفكر بدورَق السُكر. ولكنه كان قد لحق بالذوبان طيفاً غامضاً، مبهماً، في العتمة البهيمة.

اشارات

1 _ إبن طولون الصالحي، القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية _ دمشق 1949، ص 153
2 _ رحلة إبن جبير / تحقيق د. حسين نصار _ القاهرة 1992، ص 32
3 _ أحمد حلمي العلاف، دمشق في مطلع القرن العشرين _ دمشق 1976، ص 396
4 _ د. عبد الكريم محلمي، حي الأكراد في مدينة دمشق ( رسالة جامعية ) _ دمشق 1952، ص 15
5 _ الشيخ الشطي، أعيان دمشق في القرن الثالث عشر _ دمشق 1973، ص 153
6 _ محمد أحمد دهمان، في رحاب دمشق _ دمشق 1982، ص 102
7 _ إبن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان _ بيروت بلا تاريخ، ص 12 ج 1

[email protected]