جنوب العراق ووسطه يتشحان بالسواد
اسماعيل ابراهيم من بغداد: اكتست المدن العراقية وسط وجنوبا باللون الاسود حيث يكاد يرتدي السواد الرجال والنساء والاطفال وحتى جدران المنازل والبنايات يتم اكسائها بقطع من القماش الاسود وبعضها يكتب عليه شعارات تسمى هنا حسينية ومن هذه الشعارات ( لا يوم كيومك ابا عبد الله ) ( السلام عليك ياقمر بني هاشم ) (كل يوم عاشوراء، وكل ارض كربلاء ) الى ما هنالك من شعارات عديدة تخلد هذه الذكرى.
ففي احياء بغداد مثل مدينة الصدر التي يسكنها اكثر من مليوني نسمه والكرادة وبغداد الجديدة والكاظمية والشعلة ومدينة الحرية وتزداد هذه الظاهرة كلما اتجهنا جنوبا حتى تصل ذروتها في مدينة كربلاء ( 100 كلم جنوب بغداد ) والنجف وكل مدن الجنوب بلا استثناء.
الجوامع والحسينيات يجري فيها احياء المناسبة وتبقى الى وقت متأخر من الليل كما ان من مظاهر احياء هذه المناسبة هو الطبخ في الطرقات وتوزيع الاكل على الزوار والجيران لا يكاد يخلو بيت من البيوت من طبخ quot;الهريسquot; وهي اكلة عراقية عبارة عن حساء القمح والعدس وهي ما اعتاد العراقيون على طبخه بهذه المناسبة والبعض منهم من التجار يطبخ الرز و(القيمة) العدس وااللحم المهروس.
ايلاف زارت حسينة الحكيم في بغداد للوقوف على ما يجري ووجدت عشرات من الشباب يرتدون السواد ويعتلي المنبر شاب في العشرين من عمره يسمى (الرادود) وهو يقرء بصوت شجي ما يسمى باللطميه التي تنظم ابياتها من الشعر الفصيح احيانا وغالبا من الشعر الدارج العراقي ضمن طور مابات يعرف بالشعر الحسينيز وكان الرادود يقرأ قصيدة ياحسين بضمايرنا التي باتت تنال شهرة واسعة في العراق اذ تسبب نظمها بمقتل شعرها على يد النظام العراقي السابق:
ياحسين بضمايرنا صحنا بيك آمنا
مر بينا على حبك دور لا ينسى ولا يخفه
من عدوانك الجانت بينه تريد تتشفه
لبسنا الثقه وبرهنا للظالم رغم انفه
حتى من نجي نزورك على العادة المأتلفه
يتحجج علينا يريد يمنعنا بالف حرفه
كال اللي يزور حسين واله مهما يكن ظرفه
عليه مائة ذهب يدفع رسم زيارته يكلفه
دفعنا وكل شخص منا يشعر بعده ما وفه
شنهوا الذهب شنهوا المال اليحب يتوطن بحتفه
رد كال اليزور حسين من ايده ينكطع جفه
انطينه اجفوفنه بالحال وركضنا نزورك بلهفه
عنك ما منعنا الخوف كطعوا من اديدنا جفوف
من الالم ما صحنا صحنه بيك امنا
ياحسين بضمائرنا صحنه بيك امنا
ويردد الشباب باصواتهم الشجية مع القاريء مع اللطم على الصدور وبعضهم تجري الدموع على خديه .
وسط هذه المظاهر التقتquot; ايلاف quot; بسماحة السيد فالح الموسوي وهو استاذ في الحوزة العلمية في النجف الاشرف في الثلاثين من عمره يتسم بالهدوء والأدب الجم وقد زادته العمامة السوداء التي تعتلي راسه وقارا وسألته: لماذا كل هذا السواد والبكاء واللطم؟
ج / الحقيقية ان من لا يعرف واقعة الطف وما جرى فيها يستحيل عليه ان يعرف لم كل هذا الالم والحزن.
ان ما جرى في العاشر من محرم لسنة 61 لهجرة للحسين وعياله وصحبه شيء يفوق التصور لم يكن عددهم يزيد عن ( 73 ) نسمه كان سيد الشهداء يقول quot; لم اخرج اطرا ولا مفسدا انما خرجت للاصلاح في امة جدي )
هناك على ارض كربلاء يحاط بمهم جيش الحاكم من كل مكان ويخير الحسين بين اثنتين اما البيعة ليزيد واما القتل فيقول الحسين مقولته الشهيرة quot; الا وان الدعي ابن الدعي ركّز بين اثنتين بين السّلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لك لنا ، ورسوله ، والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت quot;
فأضحى هذا مبدأ الأحرار في كل الأرض هيهات منا الذلة ، وفي تلك الظهيرة من العاشر من محرم يسطر الامام وصحبه أروع صور الجهاد والتضحية والإيثار، ينزل للقتال أول اصحابه ثم الطالبيين أبناء عم الحسين واخوته وابنه حتى لم يبقى غير رضعيه ابن الستة اشهر ( عبد الله ) والذي ايضا يرمى بسهم من حرمة بن كاهل فيذبحه وهو بين أيدي والده الشيهد ثم يجتمع هذا الجيش الجرار على شخص الحسين وهو ابن أبيه الذي يعرفونه لم يضعف السبط ولم يعطيهم بيده إعطاء الذليل بل قاتل الى ان قتل شهيدا مظلوما يحز نحره الشريف ويضع الى الرماح وتسبى عياله وحرمه ويترك جسده الطاهر مخضبا على ارض الطفquot;
ان استذكار هذه الواقعة بتفاصيلها المؤلمه لا شك تثير في النفوس الاسى والحزن ويكون التعبير العاطفي والتفاعل مع الواقعة حسب الانتماء العقائدي والثقافي والبيئي للشخص لذلك تراه يختلف ويتباين من واحد الى اخر، ان هذا البكاء واللطم الذي تراه هو تعبير عاطفي ، ومن جانب اخر ان هنالك رويات مستفيضة وردت عن اهل البيت عليهم السلام تؤكد على استحباب التوشح بالسواد واظهار الحزن في الاماكن العامة والدعوة الى الاجتماع بين الناس لتذكير المصيبة والتعبير عنها بحدود المباح وهذا ما تجسد بما القاه شاعر اهل البيت quot; دعبل الخزاعي quot; لتائيته الشهيرة في رثاء الحسين بحضرة الامام علي بن موسى الرضا وقد اجهش الامام بالبكاء حزنا على جده ابي عبد الله.
وهنالك من الادلة التي ذكرت في مجلدات مما لا سبيل لذكره هنا في هذه العجالة .
س / هل تعتقد ان الشعائر الحسينية قد طالها التحريف والتشوية بما يخالف العقيدة الاسلامية ؟
ج / بلا شك طالها التحريف وادخلت عليها كثير من الشعائر المرفوضة والمستهجنة ومنها التطبير وهو نوع من الافراط في الالم بالجسد وهذا ما حاربه كثير من العلماء ووقف بوجهة واصدر فتاوى لتحريمه لكن يجب الانباه ان هذا السلوك لا يعمله الا القلة القليلة جدا وبالتالي يجب لا يتنظر الى الشعائر الحسينية من خلال هذه النافذة المستهجنه .
ان كربلاء تمثل لدى شيعة اهل البيت مدرسة انسانية متألقة يستلهم منها معاني النبل والطهارة والفداء والتفاني كونها تميزت وتوشحت بشعار الاصلاح الاجتماعي والسياسي والعقائدي وعبرت عن اهدافها بطريقة استثنائية فريدة من نوعها جعلت من كل مفكر ومثقف وحر يقف مذهولا امام عظم شخصية الحسين عليه السلام احتيج الى ان تلفت النظر اليها والتعاطي معها بشكل اسثنائي وجعلها مراسيم سنوية يتوق اليها الصغير والكبير المرأة والرجل للاستفادة من مضامينها .
والتقت ايلاف بمجموعة من الشباب سألتهم عن مشاعرهم في هذا اليوم: صادق 25 سنة قال:
الحسين كما قال هو quot; انا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن الا استعبر quot;ان الغرابة في عدم البكاء عند ذكر أبي الشهداء الحسين وليس التعجب في البكاء على الشهيد المظلوم .
اما مهند حيدر الطالب الجامعي فقد قال quot; ان من المخجل ان لا يستهجن فعل من يحي كل سنة ذكرى رحيل عبد الحليم حافظ او ام كلثوم، في حين ان احياء ذكرى ابن بنت رسول الله (ص) تكون محل استغراب واستهجانquot;.
اما quot; محمد هادي quot; 33 سنة فقد قال لايلاف quot; انا اقول ما قاله عباس محمود العقاد quot; ان فلسفة تعظيم شعائر عزاء سيد الشهداء ، مكافأة يقُدمها التاريخ لابطال عاشوراء quot; واضيف ان من الطبيعي ان تبقى ذكرى واقعة الطف حية حاضرة كأنها حدثت قبل ايام وهذا يرجع الى طبيعتها الدموية فان الثورة ان اصطبغت بلون الأحمر القاني يستحيل محوها من ذاكرة التاريخ .
اما حسين ابو كرار 40 سنة استاذ جامعي فقد قال اني احفظ مقولة الى المفكر المسيحي انطوان بارا يقول quot; لو كان الحسين منا لنشرنا له في كل أرض راية، ولأقمنا له في كل أرض منبر، ولدعونا الناس إلى المسيحية بإسم الحسين quot; كما ان غاندي الهند له مقولة مشهورة يقول فيها quot; لقد طالعت بدقة حياة الإمام الحسين، شهيد الإسلام الكبير، ودققت النظر في صفحات كربلاء واتضح لي أن الهند إذا أرادت إحراز النصر، فلا بد لها من اقتفاء سيرة الحسين quot; . فهؤلاء مفكري العالم لديهم ها التصور الرائع عن شهيد الاسلام الحسين بن علي عليه السلام ما اجدر بنا اليوم ان نقتدي به ونحن احوج ما نكون الى ذلك وانت ترى ان الاسلام اليوم يحارب من أبناءه ( المتطرفين ) ومن أعداءه .
اما الرادود الحسيني ابو مجتبى فيقول ان التاريخ زاخر بالشواهد التي ارخت لهذه الواقعة وان نلام على البكاء اليوم فقد حصل هذا سابقا عندما لام البعض الشيخ ابراهيم بن نصر الموصلي الشافعي قاضي السلامية المتوفى سنة 610 للهـجرة وقد اجابهم بقصيدة رائعة اتعشم ان توردها ايلاف كما هي وقال ابو مجتبى مكررا لقصيدة الشيخ الموصلي الشافعي :
يا شهر عاشـوراء أذكـرتنـي مصارع الاشراف من هاشمِ
أبكي ولا لوم عـلى مَـن بكى وإنمـا الـلوم على اللائـم
ما من بكى فـيك أشــدّ البكا وناحَ بالعـاصـي ولا الآثم
رزيـة مـا قام فـي مـثلـها نائحـة تندب فـي مـأتـم
آل رسـول الله خـير الـورى وصفـوة الله علـى العـالم
مثل مصابيح الدجـى عـفرّت وجوههم في الرهـج الـقاتم
رؤوسـهم تحـمل فـوق القنا مظلومة شُلّـت يـد الظـالم
ساروا بـهـا يـا قبـحها فعلة مـثل مسـير الظافـر الغانم
كنما الـزهراء ليسـت لـهـم أمّاً ولا الـجد أبـو الـقاسم
قل لابـن مرجـانة لا بـد أن تَعَضّ كفّ الـخاسـر النادم
محـمـد خـيـر بـنـي آدم خصمك يـا شـر بـني آدمِ
يطلب مـنك الـثأر في موقف ما فيه للظـالم من عـاصم
وفيه يقـتصّ مـن المعتـدي بالنار لا بـالسيـف والصارم
وقد عارضت الحكومة العراقية السابقة اقامة الشعائر الحسينية ومنعتها واعدمت شعراء وقراء كثيرين خشية ان تتحول تلك التجمعات في عاشوراء الى معارضة للسلطة. حيث اقتصرت تلك الاحتفالات الحزينة داخل البيوت وسمحت السلطة السابقة ببث القصة الكاملة لمقتل الامام الحسين في العاشر من محرم من الاذاعة الرسمية في سنوات التسعينات.
وبرزت في الاعوام الاخيرة ظاهرة التبرع بالدم في عاشوراء عوضا عن التطبير (خدش الرأس بالسيف) واسالة الدم. وبدءها رجل الدين اللبناني محمد حسين فضل الله منذ سنوات واخذت تنتشر في العراق ايضا وتشهد مدينة كربلاء عمليات تبرع بالدم يومية.
وعانت احتفالات عاشوراء في العامين الماضيين من هجمات انتحارية تبنتها منظمة القاعدة في العراق بزعامة الزرقاوي الذي يكفر الشيعة ويهددهم كل عام بعمليات قاسية. وراح ضحيتها المئات. الامر الذي ادخل السلطات الامنية العراقية في انذار وضربت اطواق حول كربلاء والكاظمية والنجف وسط عمليات تفتيش دقيقة.
وقد تمكنت مجموعة تكفيرية قبل يومين من الاجهاز على 14 شيعيا كانوا يسرون ضمن موكب عاشورائي في منطقة التاجي شمال بغداد تم ذبحهم بالحراب جميعا.
والمتعارف في العراق مشاركة ابناء الطائفتين السنية والشيعية معا في احياء ذكرى عاشوراء خاصة توزيع المأكولات على الناس واستذكار قصة مقتل الامام الحسين بن علي بن ابي طالب.
التعليقات