برغم الوجع اللبناني المتواصل...الحمرا لم تفقد فتنتها

حسن المصطفى موفد quot;إيلافquot; إلى لبنان: شارع الحمرا، المكان الأكثر شهرة وجاذبية في بيروت، التاريخ العتيق، والناس المتوزعة هنا وهناك، حيث تشعر أنك في قلب لبنان. المحلات، المقاهي، الشُرف التي تطلب من الأعالي، والزهور التي تزدان بها شبابيك المنازل العتيقة. العلب الليلة المتناثرة، وأيام الستين والسبعين، ومثقفون يتجادلون وأفكار يجاهر بها معتنقوها، وسياح غادروا على أمل معانقتها قريبا. تتذكر خالد الهبر وهو يغني quot;خذني معك وديني ع شارع الحمرا، خذني معك تحلى لي بالحمرا السكرة. اشرب كاس المحبة، شي قهوة ع الرصيف..quot;. تغني معه وقلبك في نشوته يطوف بين quot;الزواريبquot; يبحث عن ذكرياته المتناثرة، عن أيام خلت كنت فيها مأنوسا بالمكان الأثير.

عدوان إسرائيل على لبنان، والتدمير المستمر للإنسان والحجر، لم يسلب كل ذلك الحمرا فتنتها وأنوثتها. لم تزل مشرقة، بضة، متمسكة بالحياة والضجيج الصباحي، وإن استبدلت بعض عاداتها، وأصبحت تغفو مبكرا، خوفا من زوار الليل.
في بدايات الحرب، وتحديدا بعد أن قُصفت منارة بيروت، انكفأ الناس عن النزول لشارع الحمرا، وتراجعت حيويته بضعة أيام، عدا عن سكانه الأصليين وبضع مهاجرين أتوا من قرى الجنوب وضاحية بيروت الجنوبية. إلا أن هذا الانكفاء ما لبث إلا وزال، وعاد الناس لسابق عهدهم. صحيح أنك لن تجد سياحا أجانب، ولن يصطدم بصرك بالسحنة الخليجية السمراء، ولن تتطاير أمامك العباءات السوداء بالقرب من مكتبة quot;أنطوانquot; ومطعم quot;بربرquot;، إلا أنك ستشاهد سياحا من نوع آخر توزعوا بين صحافيين أجانب أتوا لتغطية الحدث، أو مهجرين ونازحين جنوبيين هربوا بحثا عن مأوى، واتخذوا من فنادق المنطقة سكنا مؤقتا لهم، أو متطوعين من مؤسسات المجتمع المدني ينشطون في مساعدة النازحين، وتوفير العلاج والغذاء الضروري لمن لا يملكه منهم.
زحمة السير، وquot;عجقةquot; السيارات، الطوابير الممتدة، أبواق السيارات، السرفيسات، وشتائم quot;شوفيرquot; التاكسي الصباحية، كلها لم تزل هناك ولم يتغير مشهدها اليومي.


الأرصفة لم تغادرها الأقدام، والناس تراها تذهب وتجيء منذ الصباح الباكر. إرادة الحياة، والعيش بشكل طبيعي، لم يشأ لها اللبنانيون أن تذهب. هم متمسكون بها رغم قناعتهم بأن إسرائيل تريد سلبها منهم.
بعض المحلات التجارية آثرت أن تغلق أبوابها لاعتمادها المباشر على السياح الأجانب وميسوري الحال من اللبنانيين، فيما غالبية الأماكن فضلت أن تفتح أبوابها، في إيحاء منها أنها لا تزال تتنفس ولم تمت.

وأنت هنا، لا تشعر بأن حربا شرسة تدور في الجنوب، وأن قنابل قاتلة تمطر سماء البقاع وبعلبك. أصوات متقطعة لقذائف تطلقها البوارج الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية، تسمعها بين حين وآخر، وأن ترتشف فنجان قهوتك، إلا أن اعتيادك عليها، وثقتك المفرطة في أنك لست هدفها، تجعلك مطمئنا، ولا تدير بالا لها.
المحلات التجارية تفتح أبوابها بشكل متفاوت. البعض يفضل أن يذهب باكرا لمنزله، فيغلق عند الثانية ظهرا، وآخرون عند الرابعة أو السادسة، والأقل عند الثامنة، والقليل القليل من مطاعم وبقالات وحانات تظل مستيقظة حتى ساعة متأخرة من الليل.

تلك هي الحمرا، رئة بيروت التي منها تتنفس، وفاتنتها المزدانة صبرا وإصرارا على البقاء، لم ولن يغادرها محبوها، لأنه، وببساطة شديدة، لا قدرة للعاشق على فراق معشوقته.