حسن المصطفى موفد إيلاف إلى لبنان: ترى إسراء سليمان، الطالبة السعودية بالجامعة الأمريكية ببيروت، وقد تسربلت بحزن نسجت عباءته بشغاف القلب؛ منذ أول قذيفة إسرائيلية سقطت على الأراضي اللبنانية وهي لا تبرح شاشة التلفاز.
حتى عندما تدخل إلى الإنترنت، تراها وقد غيرت اسمها على الماسينجر، إلى اسم لبناني يرشح محبة إلى تلك الأرض. الأرض التي لم تعش عليها سوى بضعة شهور جعلتها ثملة بالبلد الذي عشقت.
quot;من يشرب من ماء لبنان لا يستطيع فراقه. سيمتزج هذا الماء الرقراق بذرات جسده. ليس الأمر من باب المبالغة أو الحب المفرط، إنما هنالك شيء خفي لا يلحظه الكثير من السعوديين الذين يأتون أياما ويعودون إلى بلدهم. إنها التركيبة أو التوليفة، أو لنسمها مزيج التناقضات والطوائف الذي جُبلت به لبنان وشعبها، ما يجعلها ثرية ومغرية لدرجة لا أستطيع معها صبراquot;. بهذا الشكل تعبر إسراء عن حبها، مستفيضة في القول quot;هو نوع من الجنون، فليكن جنونا، ولكنه عين العقل في رأييquot;. وكأنها في جملتها السابقة، تشير إلى العبارة الشهيرة للقطب الأكبر جلال الدين الرومي، عندما قال: quot;كل عقل يطير إلى حيث الجنونquot;.
المحبة والقلق، الخوف من مستقبل قد لا يكون كما رسمت، لم يكن هاجس إسراء فقط، إنما هو تعبير عما يدور بخلدِ كثير من زميلاتها في الجامعة، رغم حداثة عهدهم بها. فاطمة طالب، هي الأخرى فزعة جدا مما يحدث، وما يزيدها قلقا هو خوفها من أن لا تستطيع مواصلة دراستها في AUB، وأن تضطر لاستبدالها بجامعة أخرى، فالدراسة على الأبواب، ولا يفصل عن بدايتها عدا شهر واحد فقط.
فاطمة تستغرب مما يجري، وتعلق بقولها quot;لم نكن نتصور أن الحلم الذي أتينا إلى بيروت من أجل تحقيقه ستعمل إسرائيل ليس على تأجيله فقط، بل نراها تسعى لوأده. إنها لا تعاقب الشعب اللبناني وحده، وإنما تعاقبنا نحن أيضا، من أتينا محملات بالكثير من الآمالquot;.
بالرغم من خيبتها، ترى فاطمة مصرة على العودة، مرددة مع فيروز quot;الآن، الآن وليس غداً، أجراس العودة فلتقرعquot;، راغبة في تجاوز أي ضغوط قد تمارسها الأهل quot;لا أرغب في استبدال جامعتي بأخرى. أهلي قلقون مما يجري، وهم راغبون في تغيير مكان دراستي، فهم لا يريدون أن يصيبني أي مكروه. إنني أتفهم مشاعرهم ومخاوفهم كأهل. لكنني من جهة أخرى، أحببت المكان واعتدت عليه، وأجده يضيف لي ولشخصيتي العلمية والاجتماعية والثقافية الكثير الكثيرquot;.
بالنسبة لفاطمة، المسألة لا تتعلق بالدراسة فقط، وإنما تتعداها لما في بيروت من تعدد وتنوع ونشاط وحيوية، فهي ترى quot;إنني شابة في مقتبل عمري، ومن المهم جدا أن أصيغ شخصيتي بطريقة تجعلها سوية وقوية واعية. ليس الأمر متعلق بان أتخرج وأكون طبيبة وحسب. بل، ما ستضيفه لي الجامعة، وما سأكتسبه من المجتمع الذي أعيش فيه، وأتأثر بهquot;.
من جهتها، تتقاطع إسراء هي الأخرى مع فاطمة في هذا التصور. فهي وجدت في بيروت جرعة من الحرية التي كانت تفتقدها في موطنها quot;في بيروت، وفي AUB تعلمت كيف أكون حرة، وكيف أكون في ذات الوقت مسئولة عن هذه الحرية. كيف أتدبر أموري الشخصية دون مساعدة أحد. هذه التجربة صقلت شخصيتي، وأزالت مني الكثير من الخوف ومن التردد، ومنحتني ثقة وقوة لم أكن أعلم أنها كامنة بداخليquot;.
الجو الثقافي، والنشاطات العديدة التي تزخر بها AUB وبيروت، سبب آخر يجعل إسراء متمسكة بالعودة من جديد quot;في الجامعة هناك الكثير من النشاطات الثقافية والعلمية والفنية. لا يشعر الإنسان أنه في جو علمي ضاغط وجاف رغم صعوبات الدراسة. لكن هذه الحياة التي تحيط بك، والفعاليات المستمرة سواء الجامعية منها، أو تلك التي تقام في مسرح quot;المدينةquot; بالحمرا، تمنح نفسك وعقلك جرعة أوكسجين نقيةquot;.
في مقهى quot;ستار بكسquot; بشارع الحمرا الرئيسي، ترى شباب وصبايا AUB، يتناثرون في أرجائه كما تتناثر النجوم في السماء. نحلٌ يجوب بين زهرة وأخرى. اسطوانات موسيقى، مجلات وجرائد، فناجين قهوة، أكواب شاي، كتبٌ، أجهزة حاسوب محمولة، نقاشات تطول وتقصر، حيوات ملؤها النشاط، وجو من الجد والدراسة لا تريد إسراء ولا فاطمة أن تفتقداه، صادحات مع فيروز quot;سنرجع يوما إلى حينا، سنرجع في باسقات المنى، سنرجع مهما يطول الزمان وتأنى المسافات ما بينناquot;.
التعليقات