المتفرجون في حلبة المغامرة لـ quot;إيلافquot;:
quot; التكاسكاديquot; في موريتانيا: هواية تحمل الموت

أحمد ولد إسلم من نواكشوط: لم يكن هذا الطفل ذو الأربعة عشر ربيعًا تقريبًا يدرك أن مساء الجمعة الرابع والعشرين أكتوبر 2008 سيكون آخر يوم يقف فيه على حافة حلبة quot;التفحيط quot; قرب شاطئ نواكشوط، ولم يكن يعرف أنه سيمضي وقتًا طويلاً ينزف دون أن يتعرف أحد على هويته، لأنه لا يحمل بطاقة تعريف. لكن الجماهير الغفيرة التي تحيط بالحلبة تدرك كلها أن أحدًا منها سيغادر المكان في سيارة إسعاف إلى الحالات المستعجلة أو ربما إلى مغسلة الأموات... وبدا كأن كل واحد منها يتحسس نفسه بعد مرور أي سيارة أو دراجة نارية ليتأكد أنه ما زال على قيد الحياة... فـالتفحيط أوquot;التكاسكادي quot; - كما يسمى محليًا في موريتانيا اشتقاقًا من لفظ CASCADE في اللغة الفرنسية - رياضة يهواها العشرات من مختلف الأعمار والأجناس، ويتفرج عليها المئات من سكان العاصمة نواكشوط والقرى القريبة منها، وتشهد الساعات الأولى من مساء كل جمعة وسبت ( عطلة نهاية الأسبوع في موريتانيا ) زحمة غير عادية في الطرق المؤدية إلى الساحات المحاذية للشاطئ.

وفي أوسع تلك الساحات يقتحم مجازفون في سيارات تتعدد طرازاتها، فمنها ما هو خارج لتوّه من المصنع، ومنها ما أنهكته الأيام والتجارب الخشنة في حلبة quot; التفحيط quot;. لا تسمع في تلك الساحة سوى الصراخ المتعالي، تارة للإعجاب بالحركات الجنونية التي يؤديها المجازفون، وتارات أخرى من الهلع لدى فقدان أحد المتبارين السيطرة على مجسم سيارته. والقاسم المشترك بين أكثر السيارات التي تقتحم الحلبة جيئة وذهابًا، هو غموض الهوية، ففي أكثر الحالات يكون المغامر ملثماً، إلا من كان باحثًا عن شهرة في الميدان، أو من يرائي أقرانه مستثيرًا إعجاب الجمهور ذي الغالبية من القصر والنساء.

وإذا لم يكن المغامر ملثمًا فإن هوية السيارة تكون غامضة، من خلال تعتيم الزجاج أو نزع لوحة الأرقام. وما يفسح المجال لأكبر قدر من المخاطرة بالأرواح والممتلكات، غياب أي وجود لقوات الأمن في مكان الرياضة، وهو ما يستغله عادة المغامرون الذي يصطدمون بالجماهير، فيضاعف أحدهم السرعة مغادرا الحلبة، تارك دماء الضحايا تضرج المكان والذهول يتملك الحاضرين، ويكون رفاق المغامرة في مثل هذه الحالات هم الشرطة، فينطلقون في سرعة خاطفة لملاحقة الجاني، ويتوقف القبض عليه على خبرتهم في المطاردة، وتزداد الحاجة لقوات الأمن حين يستعمل بعض المتفرجين الرصاص الحي في محاولة يائسة لتوقيف الجناة الفارين.

المتفرجون..آراء متباينة

آراء المتفرجين الذين التقتهم إيلاف في حلبة المغامرة متباينة حول الرياضة، أو الهواية الخطرة. فسيدي محمد (21عاما) أتى للمرة الأولى وهو من سكان الحوض الشرقي على بعد 1200 كلم شرق نواكشوط ، كان يتطلع إلى التفرج على التفحيط لكثرة ما سمع عنه من زملائه ، لكنه صدم لدى مشاهدته الحركات الجنونية التي أداها المجازفون فقرر أن تكون زياته الأخيرة. في حين أن شقيقه محيي الدين (16 عامًا) صرح لإيلاف أن لديه رغبة كبيرة في مواصلة المشوار، وهو عازم على تثبيت موعد دائم مع الشاطئ في نهاية كل أسبوع، على الرغم من أن ذويه قد لا يسمحون له بذلك.

فيما محمد وهو أب لأسرة قدم بأطفاله الثلاثة للفرجة على التفحيط فضل النأي عن الحلبة، من خلال الوقوف على مرتفع رملي يبعد أمتارًا عن ميدان المغامرة، وهو يرى أن في هذه الرياضة الكثير من المتعة والتسلية خاصة أن نواكشوط تنعدم فيها أي بنى تحتية للترفيه، إذ لا توجد ساحات عمومية، ولا حدائق تسلية للأطفال ولا دور سينما محترمة، والحركة المسرحية فيها ضعيفة، ولم يبق للباحث عن الترفيه- حسب رأيه- سوى الحضور إلى حلبة التفحيط للاستمتاع بالعروض المثيرة، ولكن مع كثير من الحذر، والسيطرة على الأطفال حتى لا يقتربوا من الحلبة .
محاولة لتأكيد الذات.

في سعي إيلاف لتسليط الضوء على مختلف جوانب هذه الظاهرة المتنامية في موريتانيا طلبت رأي الباحث في علم النفس الإجتماعي السيد محمد محمود ولد سيدي يحي، فعلق على الموضوع قائلا:quot; ينتمي سلوك سكان نواكشوط بنسائهم وأطفالهم وهم يتحلقون قرب الشاطئ لمشاهدة سباق السيارات المعروف بـ quot;التكاسكاديquot; إلى تقاليد عريقة في الفرجة على مباريات الفروسية والمبارزة التي درج عليها أسلافهم من البدو المحاربين.

وعلى الرغم ممّا في حركات هؤلاء الشبان من مخاطرة طالما أودت بحياة البعض إلا أن عنصر الإثارة في مدينة لا تعرف من أماكن الترفيه وألعاب السيرك إلا ما يتم على الشاطئ يظل يشد الأغرار من الشباب والفتيات والمارة من الموريتانيين الذين لا يجدون متنفسًا في مدينتهم الضيقة إلا على رمال شاطئ المحيط. ولا يختلف هذا النوع من المباريات الخطرة عمّا نشاهده عند شعوب أخرى مثل الإسبان المولعين بمصارعة الثيران ومسابقتها، وحتى في سباقات السيارات السريعة التي تشهدها الراليات المختلفة على الرغم من الاحتياطات التي يعمد الناس إلى اتخاذها عادة في مثل تلك الأنشطة الرياضية.

ما يزيد من خطورة التفحيط هو أنه كلما احتشد الجمهور وتكاثر كانت حماسة وربما حماقة القائمين بالحركات الاستعراضية أكثر تهورًا. ويزيد من مضاعفات الأمر أن معظم من يقبلون على القيام بالاستعراضات شباب من صغار السن وهو ما يجعلهم أكثر ميلاً إلى التهور والسقوط في فخ ما يسمى في تراث موريتانيا quot; عينين اجماعةquot; -أي الحماس يحضرة الجمهور-
وبالنسبة إلى القائمين بالمجازفة يبدو الأمر تأكيدًا للذات لأشخاص ربما كانوا بحاجة إلى تعزيز ثقتهم بأنفسهم، وخصوصًا بالنسبة إلى الفتيان أمام الفتيات.

ويغلب على الظن أن الذين يقومون بهذه الحركات ممن يعانون من فراغ اجتماعي كبير ، ويندر أن يكون من بينهم متزوجون أو أشخاص يتحملون مسئوليات اجتماعية معتبرة لأنه كما يقول السلف quot; العيال مجبنة المرءquot;. ويمكن عمومًا أن تختفي ظاهرة quot; تكسكادي quot; إذا أوجدت في موريتانيا بدائل للترفيه وأنشئت منتزهات للعائلات على الشاطئ تقدم خدمات مختلفة، وكلما نقص جمهور quot;تكسكاديquot; كلما قل المقبلون عليهquot;. وحتى لو صنفنا حركات quot; تكسكاديquot; ضمن الألعاب والمسابقات فإن تنظيمها بشكل يعزز احتياطات السلامة أمر ضروري في مجتمع ما زال في طريقه إلى اكتشاف طرق مفيدة لقضاء أوقات الفراغ.

الأمن يرفض التعليق..

اتصلنا بمفوضية شرطة مقاطعة السبخة 1 التي تتبع منطقة الشاطئ لسلطتها الترابية لتفسير غياب أي وجود للأمن في ساحة المجازفة، على الرغم ممّا يحيط بهذه الهواية من المخاطر، إلا أن سيادة المفوض بعد أن طلب منا الحضور إلى مكتبه للحديث عن الموضوع، اعتذر عن ذلك، معللاً رفضه بأن واجب التحفظ المهني يمنعه من الحديث للصحافة.

وفي ظل غياب مطلق لوسائل الترفيه في عاصمة يسكنها ثلث سكان الدولة الموريتانية، وغياب مماثل للأمن في ساحة يقصدها المتهورون، يبقى على مصالح الحالات المستعجلة في مستشفيات نواكشوط، وحفاري القبور بمقاطعة الرياض، أن يكونوا في حالة استنفار قصوى في كل عطلة نهاية أسبوع لاستقبال الضحايا، فيما يتوجب على المتفرجين التأكد من حملهم بطاقات التعريف الخاصة بهم قبل مغادرتهم المنازل كي لا تتكرر مأساة الطفل ذي الأربعة عشر ربيعًا.