إيلي الحاج من بيروت: يخيّل إلى السائر في طرق لبنان أن السلطات سحبت لوحات السيارات التي تحمل أرقاما عادية ووزعت بدلاً منها لوحات لا تحمل إلا أرقاماً إستثنائية، بما يوحي أن لا أحد يقبل في هذه البلاد الصغيرة مساحة بأن يكون إنساناً عادياً، فالكل مميّزون لا أحد بينهم يشبه غيره في شيء. لكأن الإصرار على إظهار الذات مختلفة عن الجميع تحوّل نوعاً من جنون جماعي أصاب الكل عدا قلة لم يدركها الخبر بعد. يتجاوز المرء عدد السيارات الجديدة التي بلغت نسبة بيعها الضعف مقارنة بالسنة الماضية وفق إحصاءات الشركات الوكيلة، رغم كل ما يقال عن اقتصاد مأزوم وأزمة في المعيشة وموجة غلاء كبيرة، وقد يعود السبب إلى وفرة العروض من الشركات والمصارف على السواء وانخفاض أسعار السيارات نسبياً بسبب المزاحمة العالمية، لكن ما لا يمكن تجاوزه هو انتشار اللوحات التي كانت مخصصة أرقامها لشخصيات رسمية، ولأغنياء يستطيعون دفع ثمنها الغالي .

هكذا تحمل السيارات الكثيرة جداً التي تحمل ثلاثة أرقام وحتى أربعة ، من أصل سبعة، على الإعتقاد أن العابرين فيها هم متموّلون متنفذون على الأقل، حين أنهم لا يبدون كذلك على الإطلاق معظم الأحيان. وفي ما مضى ذاع خبر وزير للخارجية اللبنانية أصر فور تسلمه الوزارة على إعطائه لوحة بثلاثة أرقام لسيارته الثانية غير الرسمية وباع اللوحة ، تلك الأيام بمئة الف دولار لأحد الوجهاء . اليوم أصبحت لوحات الثلاثة أرقام متوافرة بكثرة في لبنان، يبلغ ثمن الواحدة منها ما بين 20 و25 الف دولار. يقول رجل اشترى إحداها أخيرا لـquot;إيلاف إنه دفع ثمن سيارته 90 ألفاً ولا بأس في مبلغ إضافي ليكتمل quot;المظهرquot;.

طبعاً تباع لوحة الأربعة أرقام بأسعار أرخص، ويختلف السعر بحسب تشابه الأرقام أو تسلسلها، فيراوح بين 7 آلاف دولار و15 الفاً. والتسعيرة نفسها تنطبق على اللوحات ذات العدد الأكبر من الأرقام إذا جاءت متسلسلة ( من الرقم 1000000 إلى الرقم 9999999) ، أو إذا كانت تحمل رمزا معيناً ، أو إذا كان كل رقمين فيها متشابهين ، والأخيرة تنخفض أسعارها أو ترتفع بحسب quot;جمالياتهاquot; . سوق حقيقية تتراكض على الطرق بملايين الدولارات ولا يُعرف بالضبط من هم البائعون فيها ومن يشترون ولا أين تكون. وحدهم سماسرة السيارات ومعاملاتها، التجار المحترفون فيها وبعض الموظفين في مصلحة تسجيل السيارات والآليات في وزارة الداخلية، يضطلعون بدور الوسيط ويقتنصون من الأرباح مع عدد محدود من أزلام سياسيين يعرفون بالضبط من أين تؤكل كتف الدولة والمواطن العادي الذي يهمه أن يخفي quot;عاديتهquot; عن الأعين ولا يهمّ إن كلفه ذلك كثيراً.

لا تعود أثمان اللوحات ذات الأرقام المميزة إلى الدولة في أي حال . والأرجح أن الدولة، تحديداً مصلحة السير في وزارة الداخلية، لم تعد فيها أي من اللوحات المميزة، فقد سبق أن quot;صادرهاquot; وزراء داخلية سابقون وفقاً لبند في صلاحيات الوزير يتيح له هذه المصادرة شرعا. وما جرى أن السابقين لوزير الداخلية الحالي زياد بارود لم يتركوا له أي رقم حتى لنفسه. يقسم بارود أنه لم يوقع ولم يعط أي لوحة لأي كان من اللوحات التي امتلأ بها البلد الصغير مكوّنة فئة جديدة من الأثرياء على حساب خفيفي العقول الذين دفع أحدهم ، ما فوقه وتحته ليحصل على لوحة سيارة مميزة تطابق رقم هاتفه الخلوي المميز أيضاً.

ويكتشف المدقق في الكواليس، أن وزيري داخلية من فئتين سياسيتين متعارضتين اليوم، أقدما كل في أول ولايته، قبل عام 2005 على وضع يده على أعداد هائلة من اللوحات المميزة قبل طرحها في السوق ، الأول quot;صادرquot; 30 ألفاً منها والثاني 25 ألفاً، ووزعاها على الأصدقاء والأنصار والمحاسيب رشى لا يطالها القانون ليستفيدوا بأثمانها . وعمدا أيضاً إلى إنزال أعداد كبيرة من اللوحات وفق الترتيب الأبجدي الذي يكاد يصل في لبنان إلى آخره بعدما أوصلا الرقم إلى 7 أعداد في اللوحة، وquot;الحبل على الجرارquot; ( مثل عامي : قابل للزيادة بعد) .

وكان وزير الإتصالات جبران باسيل أجرى مزايدة على الأرقام المميزة للهاتف الخليوي ( النقال) جلبت مئات آلاف الدولارات للموازنة، لكن اعتماد هذا الأسلوب يتعذر في سوق لوحات السيارات إلا إذا قررت الوزارة إلغاء كل اللوحات وإعادة توزيعها بأثمان محددة لquot;المميزينquot;. وهذه أقل ما يقال فيها كارثة لكثيرين يتنقلون بسيارات تحمل لوحات هي ثروتهم الوحيدة على هذه الفانية.