صفاء الغانم من البصرة:سراي القنصلية البريطانية العتيد على كورنيش شط العرب ، يروي حكاية غروب مدينة تلتحف الرمل و الماء ، فالسراي الذي بني مطلع القرن الماضي تمرحل ما بين مقر للقنصلية البريطانية فمتحف للتاريخ الطبيعي ثم مقر تراثي لرئاسة جامعة البصرة ، ليقطع رحلة تحولاته عبر قرن كامل بمأوى بائس مهدوم لعوائل مشردة تنام على وقع سيمفونية الكلاب السائبة.

تمثال الشاعر بدر شاكر السياب
الصياد والحوريات
المكانات في البصرة عوالم مضطربة ، متحركة، سريعة الهرم و الانزواء. ربما كان هناك يوم على شط العشار الذي يخترق قلب المدينة من اتجاه مقام الامير ( تيمناً بالامام علي) ، حتى محلة ( السيمر ) في البصرة القديمة ، قصراً ناعماً و انيقاً انتهى به الحال فرنا حجريا ، و شريعة النهر مسخت الى محمية طبيعية للازبال.

تحول لا حلول ، تماه مرعب وانزياح كافر ، ويتمم المشهد المأسوي ، تلك العلاقة السرية المحمومة بالنفي و التضاد بين تماثيل المدينة و امكنتها.

عبر صف طويل على ارصفة تجمعت الازبال تحت افيائها ، يتقرفص العتالون و العاطلون عن العمل و العمال الاجراء ، يطالعون بؤسهم اليومي برضى دون قناعة في ساحة ام البروم.

أسد بابل قبالة مقام الامير
الحوريات
و يهيمن على المشهد الباعة المتجولون و الكشك العاري ( لناصر ابو الجرايد ) ، الذي تغفو عنده بأمان ( محاسن ) شبح انثى تدلى رمانها ذات يوم بأنتظار فارس ، تزوق وجهها المتغضن بمساحيق رخيصة ، كرخص الدم العراقي المتصدر لمانشيتات صحف ناصر التي يتجمع حولها مثقفو المدينة متصلين بخيط سري بصباغي الاحذية و سائقي السيارات و المشردين ، مطأطئين روؤسهم خشية ان تنهال عليهم مطرقة تمثال العامل بوجهه الصنمي و ميلانه المعتوه ، المطرقة التي تهاوت امام صلافتها سينما الكرنك العريقة لتطمس معها الوجوه الحالمة و العوالم الخرافية.

يما يقف الجنوبي المسلول ( بدر شاكر السياب ) محتجاً على صمت الشط ، دافعاً بوجهه الشمعي صوب المدينة ، عله يقتنص ميدوزا الذي افترس قلبها بالضغينة ، رافعاً يده الكهلة ، مترفعاً عن غواية دنانير البنك المركزي المحتشد امامه.

عملاق الشط ( جسر بدائي متعب ) يختزل ضفتي شط العرب الى جنة النخل المحترق ( التنومة ) التي استحالت الى مزرعة الغام ، فطارت احلام اولاد المدينة و صبايا كما طارت رؤوس النخل بين الرصاصات المتنافرة و الجراحات المفتوحة و الاماني المتخندقة في حجابات العزلة.

فم الموت فاغر ، ساحة الجبهات لا تنتهي في هذه الارض ، ففي ساحة سعد بن ابي وقاص يشمخ تمثال النصر الطروادي ( تمثال الجندي و الحوت ) وهو يشيع الجنود الطيبين بعيونهم الشائهة نحو كل الاشياء و العناوين و الوجوه و الباصات و البيوت ، كمن يختزن بذاكرته طريق الرجوع الى الامهات مقمطين براية النحر المجاني.

الامهات من ساحة سعد يودعن صغارهن في كل حروب الوطن الى جبهات النحر ، ومن هنا ايضا يشيع النازفون مراراتهم الى وادي السلام في النجف ، او مقبرة الحسن البصري في بلدة الزبير.

طواف خجل في مدينة اتشحت بالحزن و سطرت حكاويها على باب الامير المغدور ، فباب مقامه يلوح للغارقين في الاسى هلموا ، افتح جعبة اسراركم ، اطهركم من خطاياكم ، و قبالته اسد الكلس البابلي الابيض فحل المعاشرة العصي يربض على جسد المينة المتحجر بما تبقى من جسده بعد ان طالته رشقات الهاونات ذات ليلة.

فيما المارة غير آبهين بجسده المنقوص وهم ينسلون الى ( وناسة ) شارع الوطن حيث دارة السينمات الافلة.
مقام الامير ، اسد بابل ، شارع الوطن تضاد في العلاقة ، كل منهم يتحفظ على هيمنة وجوده.
هناك .. قبالة مديرية التقاعد العامة ينشر صياد المآسي الليلية شبكة وهم ، يغازل بها حوريات الشط الجميلات اللواتي نخر العطش انوثتهن الرائقة.صياد المأسي الليلية بقبضة تماجن الهواء ، يعلن افول مملكة الماء و النخل.

البصرة ، وكانها مقبلة على سنوات عجاف من عطش مر ، وانحسار الماء عنها ، تتوزع في شوارع المدينة ، قِرب ماء مزركشة كقوس قزح بعد مطر...

يا ترى ؛ أتراها قِرب الماء اشارة لعطش مقبل ؟!!.