آخر مصور شمسي في جنوب العراق يقاوم اندثار مهنةٍ تجاوزهاالعصر
نيوزمايتك/ البصرة:بعد مرور خمسين عاماً على اشتغاله بمهنة التصوير الشمسي، مازال المصور الفوتغرافي أبو صباح يزاول مهنته في الهواء الطلق، وبأسلوب بدائي حرص على أن لا يفرط به أمام التطور الحاصل في مجال تقنيات التصوير الرقمي، بل ضاعف ذلك حرصه على الإحتفاظ بصندوقه الخشبي الذي يكاد لا يفارقه كل يوم منذ ساعات الصباح الأولى وحتى غروب الشمس.
أبو صباح ومنذ عامين أصبح أكثر إدمانا على تدخين التبغ والتحديق بوجوه المارة، بعد أن اتخذت الحكومة المحلية في مدينة البصرة قراراً يقضي بمنع ترويج المعاملات والوثائق الرسمية التي تحتوي على صور شمسية، واعتماد الصور الملونة بديلاً منها، لكن هذا القرار الذي كان بمثابة المسمار الأخير في نعش مهنة التصوير الشمسي، لم ينهِ رحلة أبو صباح مع كاميرته ذات المنشأ البريطاني، والتي اقتناها عام 1956، وكان له الفضل من خلالها في تصوير آلاف الوجوه قبل أن يجتاح الغبار عدستها في الآونة الأخيرة.
أبو صباح يتحدث لـquot;نيوزمايتكquot;، عما آلت إليه الحال ويقول، إن quot;هواة التصوير فقط يرتادونه بقصد تصوير وجوههم بكاميرته، التي وصفها ضاحكاً بالتاريخيةquot;، ويشير إلى انه يعتذر منهم في بعض الأحيان لأسباب أوضحها بقوله quot;أواجه صعوبة كبيرة في الحصول على مستلزمات التصوير، خصوصاً المحاليل لأنها غير متوفرة في الأسواق، وبعضها أجد نفسي مضطراً لتحضيرهquot;.
لكن أبو صباح لا يعتمد في معيشته على المصورين الهواة، بل على منتجي الأفلام الوثائقية الذين يقصدونه باستمرار، ليس إعجابا بكاميرته وإنما رغبة منهم في الحصول على حصادها خلال السنين الماضية، فهم يُقبِلون على شراء الصور الفوتوغرافية القديمة، التي يحرص أبو صباح على وضع العشرات منها في أكياس صفراء اللون، بانتظار زبائن من هذا النوع تهمهم الاستفادة منها في إنتاج أفلام وثائقية تتحدث عن تراث المدينة.
إلا أن أبو صباح يبدو عنيداً في تعامله معهم عندما يقول quot;من المستحيل أن أسمح لهم بمشاهدة تلك الصور قبل أن يسددوا ثمنها، لأن ذلك يمنحهم فرصة المساومة عليها، وأنا انبذ هذا التصرف بشدةquot;.
ووفقاً لما أدلى به أبو صباح، فإن ثمن الصورة الواحدة يتراوح بين 10 إلى 40 ألف دينار، وإن غالبية تلك الصور ملتقطة لأماكن ومناطق قد أمحى الزمن معالمها الأصلية، فيما يعود بعضها الآخر إلى شخصيات سياسية كانت تحكم مدينة البصرة ذات يوم، قبل أن يطويها النسيان.
ولم يُخفِ أبو صباح ندمه وحزنه الذي اعتاد عليه جراء التخلي عن تلك الصور التي يصفها بأنها quot;ثمرة العمرquot;، وأكد انه يضطر لبيعها بسبب ظروفه المالية الحرجة، مشيراً إلى أنه لا يمتلك القدرة على افتتاح محل تجاري لمزاولة مهنة التصوير بالطرق الحديثة، هذا فضلاً عن عدم معرفته بكيفية إستخدام الكاميرات الإلكترونية وأجهزة الكومبيوتر التي قال عنها إنها quot;تقف وراء تخلف فن التصويرquot;.
ويتحدث أبو صباح عن تجربته الطويلة مع التصوير الفوتوغرافي الذي وصفه قائلاً quot;إنه فن عظيم يجب الحفاظ عليه، وقد استمتعت كثيرا باختزال ملامح العديد من الناس في قصاصات ورقية، وكان لي شرف تصوير دور العبادة والأماكن الأثرية والسياحية التي أصبح بعضها أثراً بعد عين في الوقت الحاضرquot;.
أبو صباح ينتقد بشدة جمعية المصورين في مدينة البصرة، متهماً القائمين عليها بالتقصير بحقه، ويضيف quot;قبل تأسيس جمعية المصورين كنت أمارس فن التصوير بإحتراف، ولكن للأسف أجدهم ينظرون إلى المهنة من نافذة الكسب المالي، وليس باعتبارها فناً إنسانيا رفيعاًًquot;.
ويقول أبو صباح إن quot;على وزارة الثقافة أن تُكرّمه بما يضمن له العيش الكريم، وحتى لا يكون مجبراً على التخلي عما تبقّى لديه من صور تراثية نادرة، ويستدرك بالقول quot;مهنة التصوير الشمسي على وشك الإندثار، وما أملكه من صور قديمة قد ينفد في المستقبل القريب، وعند ذاك لا أعرف ماذا سأفعل؟quot;.
ويكشف أبو صباح عن قيامه مؤخراً بشراء جهاز صغير لوزن الأشخاص، قام بوضعه على بعد متر واحد من كاميرته الخشبية، في محاولة منه لتعويض الركود الذي تشهده مهنته، quot;لكن تلك المحاولة لم تأتِ بنتائج طيبة لعزوف المارة عن وزن أجسادهم، وانشغالهم بهموم الحياة اليومية وما تنطوي عليه من تحديات أمنية كثيرةquot;.
ويبدي رئيس جمعية المصورين حيدر الناصر تعاطفاً كبيراً مع أبو صباح، ويشير إليه في حديث لـquot;نيوزمايتكquot;، بإعتباره أبرز رواد فن التصوير الفوتوغرافي خلال حقبة سبعينات القرن الماضي، لكنه يصفه بـquot;صاحب الأطوار الغريبةquot;.
ويفسر الناصر قوله quot;كانت جمعية المصورين قد وجهت له أكثر من دعوة للمشاركة في انتخاباتها السنوية، لكنه رفض الحضور، كما اقترحنا عليه مراراً إقامة معرض شخصي على نفقة الجمعية، لكنه رفض من دون أن يقدم أي تبرير أو حتى كلمة شكرquot;.
ويقول الناصر إن quot;أبو صباح يتعمد حرمان نفسه من امتيازات يستحقها عن جدارة، وانه يفضل الانزواء أسفل أحد الجسور المعلقة في منطقة البصرة القديمةquot;، لممارسة مهنة وصفها بـquot;المنقرضةquot;.
ويكشف الناصر عن أن الجمعية التي يترأسها تخطط لتخصيص راتب شهري متواضع إلى أبو صباح من خلال تبرعات الأعضاء الذين يصنفون جميعاً بإعتبارهم مصورين صحافيين أو أصحاب محال واستوديوهات للتصوير التجاري، باستثناء أبو صباح فإنه الوحيد الذي يغرد خارج السرب، مخلصاً لفنه الجميل بطريقة ابتكرها لنفسه كما كان وسيبقى وفياً لكاميرته الخشبية التي تجاوزها العصر، رغم محاولاته اليائسة لإفشال حقيقة إنتفاء غرضها، بلجوئه إلى عرضها كل يوم أمام أنظار مئات المارة، وهو يبحث في تفاصيل وجوههم التي أصبحت بمنأى عن عدسة كاميرته، عن القليل من الأمل المفقود.
التعليقات