انطونيو غامونيدا واحد من أهم شعراء أسبانيا. بقي هو المولود سنة 1931منعزلا في كوخه شمال أسبانيا ، بعيدا عن الأضواء عشرات السنوات، ينشر من وقت إلى آخر عددا من قصائده في كراريس عابرة. وفجأة تُجمع قصائده هذه وتصدر في كتاب سنة 1987 في أهم سلسلة شعرية في أسبانيا quot;ليتراس هيسبانيكاquot;، وهاهي أعين النقاد تقع عليه فتنقشع غيوم التعتيم عنه كشاعر أصيل ومنفرد بصوره الشفافة، وايروسية تراكيبه البسيطة وشحنته الزهدية التي تذكر بشطحات دنيوية مليئة بعطر الجسد ورائحة الذكاء؛ شطحات وجدان ملتصق بالتربة التصاق التويج بالنسغ. فلم إذن لايستحق جائزة الأدب الوطنية سنة 1988، بل جائزة سسرفانتس الكبرى عام 2006. في شعره هواء الشَمال وجُرس التجربة؛ لغز المَنظر وفحيح اللقاء: الجسد فيه يتوحد وينابيع الخطيئة الأولى. هنا قصيدة مستلةمن ديوانه quot;كتاب البَـردquot;.

شَعرُكِ في يديه، يشتعلُ بين يدي حارس الثلج.
هاهو القمح، قيلولة الأفاعي، وشعرك فيما مضى.
افتحي عينيك لكي أرى القمح الأبيض: رأسكِ بين يدي حارس الثلج.

كل الأشجار راحت تتأوه داخل روحي ما إن طفقتُ أتذكّر سروالَك ِفي الظلمة، النورَ الذي تحت جلدكِ، وتويجاتَكِ الحيّة.
الحمامات الثملة تسافر أحياناً عابرةً الذكريات السنوية.
أيا بنت الرّيف، أيّتها الحمامة الفانيّة، فلتحلّ رحمتكِ عاريةً.

في وهيج شفتيك ِينطفئُ الشُّحْرور.
أشعرُ بجروحٍ كبيرة فيكِ وأنت تتعرين في منابعي.
ينطفئُ الشُّحْرور في المخادع البيضاء حيث أنا أعمى، حيث تدقّ فيكِ، أحياناً، أجراسٌ جِسام.

أبحثُ عن جلدكِ الذي لا يُجاهَر به، جلدكِ المدهون بأسى الأفاعي، أتبيّنُ شؤونكِ الخفيّة، وبصمة قلبك الباردة.
كان بوسعي أن أرى شريطَكِ المدمّى، عبراتَكِ بين ألواح الزجاج، وليس جرحَكِ الأصفر،
غير أنّ حلمي يسكن أسفل جَفنيكِ.

الانعدامُ جَوفٌ مثل الأقنعة، طيفه ممتقعٌ، لكنكِ تسمعين صرخة أمّهاتِ الماء وتداعبين العيونَ التي رأت الانعدامَ.

في كل مرة أكثر حزناً يفهم جسدانا أحدّهما الآخرَ، على أنني أحبُّ هذا الأرجوان الخراب.
يا لزهرُ المهاجع الأسود، يا لأقراص الفجر.

ادخلي مرّة أخرى في المخادع البيضاء.
كبيرة هي أباريق الحزن في الأيدي الفانيّة.
ادخلي مرّة أخرى في المخادع البيضاء.

حبٌ يدوم فوق شفتي:
عسلٌ بلا أمل أسفل ظلال ومراوح النساء العظيمات، وفي احتضار الصيف ينخفض كالزئبق حتى الجرح الأزرق للقلب.
حبٌّ يدوم: اِبكي بين فخذيّ
كُلِ العسلَ الخالي من الأمل.

جاء لسانُكِ؛ إنّه في فمي
مثل ثمرة في السُويْداء.
اِشفق في فمي، امتصّ، اِلعق
الظلَّ، يا حبّي.

ها تَصِلُ حيوانات الصمت، لكن الخَشخاش الأصفر يلتهب تحت جلدكِ، زهرةَ البحر نُصبَ الجدران التي كلّستها الدّموع والرّياح.
هذا فُحشٌ ورأفةٌ، قوتُ أجسادٍ تخلّى عنها الأملُ.

كبِرتُ سناً في عينيكِ، كنتِ الحلاوةَ والفناءَ، وقد أحببتُ جسدكِ في ثماره الليلية.
براءتُكِ أشبه بسكّينةٍ أمام وجهي.
لكنكِ تـثـقلين على قلبي، أتحسّسكِ فوق شفتي عسلاً قاتماً وأنا ذاهب إلى الموت.

كزهرة المحتضرين أنتِ،
التي لا تُرى، لكن عطرها ينفذ
في الظل المنخريّ، وأنّه لذّة،
كلّ ما في الحياة، خلال بعض الوقت.

في الرطوبة تحبّينني،
وفي الحَلَمة أنت زرقاء. تتكلمين
بعذوبة في شفتي، تتقهقرينَ
إلى السجن في السويداء.

يشيبُ شَعرُكِ بين يدي، وكالمياه الصامتة تتخلى عنّا الذكريات. أشعر بفتور الوجود لكن رائحتكِ تفوح في الغرف، ومجونكِ يعيش في قلبي، وجروحكِ يلِجُه فكري.

يوجد في المدائن البيضاء البحرُ،
جلطاتٌ في الهواء الذي يقطر بتؤدة دماً،
في الرزانة شراشفُ.
هناك عطرٌ أُربيٌّ، ألسنةٌ على الجراح الأنثويّة،
والقلبُ مُجهَدٌ.
تعالي أدخلي بيتي أنتِ وأجراسكِ، أيتها الراعية العمياء،
دون أي حرج،
وكأن اللُطْف لم تحن نهايتُه بعد في المدائن البيضاء.