إيلاف: في كتابه وراء الستار الحريري: رواية شخصية للدبلوماسية الإنكليزية-الأميركية في فلسطين والشرق الأوسط Behind the Silken Curtain: A Personal Account of Anglo-American Diplomacy in Palestine and the Middle East (سيمون وشوستر، 297 صفحة، 3 دولارات)، الصادر في عام 1947، يبين المحامي الأميركي بارتلي كرام بوضوح أن الرئيس الأميركي الراحل هاري ترومان الذي وقف دومًا إلى جانب قوى الحرية والتقدم، كثيرًا ما عارضته وزارة الخارجية التي مارست دبلوماسية خالية من القيم باسم الحفاظ على الوضع الراهن.

يقول كرام: "نستطيع أن نؤيد القوى... التي تعزز الأنظمة الإقطاعية في الدول العربية على أمل أن تعمل عازلًا صحيًا في مواجهة السوفيات؛ التي تعتقد بأن في إمكانها أن تواصل بنجاح في المستقبل عمليات الاستغلال نفسها التي أثبتت نجاحها في الماضي. أو نستطيع أن نؤيد القوى التقدمية في الشرق الأوسط. بوسعنا أن ندرك أن ثمة نهضة بطيئة للشعوب، وأننا لا بد من أن نضع أنفسنا في صف هذا التطور الحتمي نحو محو الأمية والصحة وطريقة حياة لائقة".

حرف انتباه

كان مناوئًا لوضع راهن يُخضِع بلدان المنطقة إلى التسلطية والفقر. وأقر أيضًا بأن المتسلطين العرب وطفيلييهم استخدموا مسألة فلسطين وسيلة لحرف الانتباه عن آثامهم الخاصة، وإضاعة الطاقات العربية على كراهية الأجانب والتعصب الديني. وتمثلت المفارقة في هذا كله في أن بريطانيا العظمى... وقفت إلى جانب المتسلطين العرب، وفعلت ما في وسعها كله من أجل إحباط قوى الإصلاح والتغيير التي رأى كرام أنها حليفة طبيعية للأنظمة الديمقراطية الغربية ومن أجل إضعاف هذه القوى.

ويبين تاريخ العقود الستة الماضية أن... الرهان على "الرجال الأقوياء" العرب كان خاطئًا أخلاقيًا وقصير النظر سياسيًا... وبحلول عام 1960، كان التحول الذي حاول البريطانيون منعه في الشرق الأوسط حدث في كل مكان تقريبًا، ما جعل القوى الغربية بلا حليف جدير بالثقة باستثناء إسرائيل، الدولة التي حاولت هذه القوى منع بروزها.

يقول كرام: "نحن الأميركيون، أيضًا، تنازلنا عن المبدأ الأساسي للحرية لأسباب تتعلق بالنفعية. لقد استرشدنا برجال الدولة البريطانيين الذين أسندوا سياستهم... على التعاون مع الحكام المحليين بدلًا من تعزيز المصالح الحقيقية للجماهير".

ويعتقد كرام أن اليهود في فلسطين يستطيعون إحضار العالم الحديث إلى العرب... فدولة يهودية قد تكون نموذجًا للحداثة والديمقراطية يستطيع العرب أن يتبنوه. واعتقد كرام بأن العرب يحتاجون إلى جرعة من روح الإبداع نفسها، وحب العمل الشاق، والتضامن الاجتماعي، والمساواة التي ميزت المستوطنات اليهودية إلى جانب القرى العربية الفقيرة وغير الصحية. وأُصِيب كرام بصدمة عندما لم يظهر أي من الشهود العرب الذين أدلوا بشهاداتهم أمام البعثة أدنى اهتمام بتحسين حياة الجماهير العربية.

بعبارة أخرى، يعتمد السلام الحقيقي على الإصلاح والتحول الديمقراطي في المنطقة.

وسيلة معقولة

وعلى الرغم من أن الحرب سيئة السمعة هذه الأيام، هناك مناسبات تكون فيها الوسيلة المعقولة الوحيدة لمنع وقوع مآسٍ أكبر.

كان النزاع في الشرق الأوسط، ولا يزال إلى حد كبير، صراعًا بين المستقبل والماضي، وبين الديمقراطية والطغيان، وبين مجتمع مفتوح ومجتمعات مغلقة.

في عام 1946، ومع استمرار الذكرى المأساوية للحرب العالمية الثانية حية جدًا، لم يكن بوسع سوى قلة من الأميركيين أن يتخيلوا أن الشرق الأوسط البعيد عنهم سيتطور قريبًا إلى واحد من أهم مخاوف السياسة الخارجية الأميركية، أو لم يكونوا ليرغبوا في أن يعترفوا بذلك.

كان بارتلي سي كرام، الذي جنده الرئيس هاري ترومان للعمل كعضو في الفريق الأميركي في بعثة مشتركة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة حول فلسطين، واحدًا من الأميركيين الذين أدركوا هذه الحقيقة قبل غيرهم. وعلى رغم أن كرام كان جمهوريًا، تمتع بما فيه الكفاية من السمعة بوصفه رجلًا قادرًا على تجاوز الحدود الحزبية للخدمة في ظل رئيس ديمقراطي، لصالح البلاد.

وقبل بعثته، كان لدى كرام اهتمام ضئيل بالشرق الأوسط الذي لم يكن، بالنسبة إلى أغلب الأميركيين، الموضوع الشعبي والمثير للشغف في الأغلب الذي أصبح عليه منذئذ. ومكن ذلك كرام من الشروع في بعثته بعقل مفتوح ومن المؤكد من دون أجندة مخفية.

الرئيس الأميركي الراحل هاري ترومان

وبالنسبة إلى كرام، أصبحت البعثة التي استغرقت عدة أشهر وغطت أكثر من 10 بلدان في الشرق الأوسط وأوروبا بمثابة دورة تمهيدية حول السياسة الخاصة بمنطقة تهيمن على العناوين الرئيسية إلى يومنا هذا.

ويكتب كرام قائلًا: "لو أن تجاربي في الأيام والأسابيع المكرسة لهذه المشكلة علمتني أي شيء واحد، فهو أن الحاجة محسوسة في كل مكان إلى سياسة خارجية أميركية – سياسة خارجية متضمنة بصلابة شديدة في المبدأ القائل بأنها ستنطبق في شكل مماثل بالنسبة إلى القوات الأميركية في الصين أو القنبلة الذرية، أو فلسطين".

إلى جانب قوى الحرية والتقدم

مع ذلك، لم يخبر أحد كرام بما كان يُفترَض أن تكون عليه هذه السياسة. وتبين روايته عن البعثة بوضوح أن الرئيس ترومان، الذي اتكل دائمًا على أحاسيسه الخاصة ووقف إلى جانب قوى الحرية والتقدم، كثيرًا ما عارضته وزارة الخارجية التي مارست دبلوماسية خالية من القيم باسم الحفاظ على الوضع الراهن.

ويقول كرام إن الولايات المتحدة تواجه خيارًا في الشرق الأوسط: "نستطيع أن نؤيد القوى الرجعية التي تعزز الأنظمة الإقطاعية في الدول العربية على أمل أن تعمل عازلًا صحيًا في مواجهة السوفيات؛ التي تعتقد بأن في إمكانها أن تواصل بنجاح في المستقبل عمليات الاستغلال نفسها التي أثبتت نجاحها في الماضي. أو نستطيع أن نؤيد القوى التقدمية في الشرق الأوسط. بوسعنا أن ندرك أن ثمة نهضة بطيئة للشعوب، وأننا لا بد من أن نضع أنفسنا في صف هذا التطور الحتمي نحو محو الأمية والصحة وطريقة حياة لائقة".

ولم تكن لدى كرام أي شكوك في شأن مشاعره. كان مناوئًا لوضع راهن يُخضِع بلدان المنطقة إلى التسلطية والفقر. وأقر أيضًا بأن المتسلطين العرب وطفيلييهم استخدموا مسألة فلسطين وسيلة لحرف الانتباه عن آثامهم الخاصة، وإضاعة الطاقات العربية على كراهية الأجانب والتعصب الديني. وتمثلت المفارقة في هذا كله في أن بريطانيا العظمى، المحكومة وقتذاك من حكومة عمالية اشتراكية، وقفت إلى جانب المتسلطين العرب، وفعلت ما في وسعها كله من أجل إحباط قوى الإصلاح والتغيير التي رأى كرام أنها حليفة طبيعية للأنظمة الديمقراطية الغربية ومن أجل إضعاف هذه القوى.

وقبل أن يفوز حزب العمال البريطاني بالسلطة في الانتخابات العامة التي جرت عام 1945، أصدر قرارًا رئيسيًا في شأن الشرق الأوسط، أيد في واقع الأمر إنشاء وطن يهودي في فلسطين الخاضعة إلى الانتداب. لكن بمجرد وصول رئيس الوزراء كليمنت أتلي ووزير الخارجية إرنست بفين إلى السلطة، أقنعتهما وزارة الخارجية والاستعمار، حيث كانت السياسة البريطانية تُرسَم، بأن أي تغيير في السياسة البريطانية التقليدية قد يؤدي إلى إضعاف الموقف الغربي إزاء الاتحاد السوفياتي في سياق حرب باردة كانت تلوح في الأفق.

رئيس الوزراء الراحل كليمنت أتلي

ثلاثة افتراضات

كانت سياسة المؤسسة السياسية البريطانية في التعامل مع الشرق الأوسط تستند إلى ثلاثة افتراضات.

الأول أن من الطبيعي للعرب أن يحكمهم "رجل قوي". والثاني أن "الرجل القوي" العربي لم يملك أي مبادئ باستثناء رغبة حريصة في البقاء على قيد الحياة وفي السلطة. والثالث أن "الرجل القوي" العربي، إذا جرى التعامل معه بذكاء، قد يكون مفيدًا للغرب.

ويستطيع "الرجل القوي" أن يتخذ قرارات لا تستطيع أي حكومة ديمقراطية، تخضع إلى تغيرات الرأي العام وضغط الانتخابات، أن تفكر فيها.

وفي غضون أيام من بداية البعثة الإنكليزية-الأميركية، بات من الواضح لكرام أن بعض أعضاء الفريق الأميركي وجدوا التحليل البريطاني لا يُقاوَم. كان لوي هندرسون، كبير الدبلوماسيين في وزارة الخارجية ورئيس مكتب الشرق الأوسط في فوغي بوتوم [حي في واشنطن العاصمة]، أحد الأمثلة على ذلك. وفي بعض الأحيان بدا وكأنه بريطاني أكثر من البريطانيين أنفسهم. (أصبح هندرسون لاحقًا سفيرًا للولايات المتحدة في إيران في أوائل خمسينيات القرن العشرين).

وعندما انتهت مهمة البعثة الإنكليزية-الأميركية، بات من الواضح أن النظرة الاستعمارية البريطانية انتصرت على المثالية الأميركية كما رددها كرام وبعض الأعضاء الآخرين في الفريق الأميركي. وعنى ذلك أن الحليفين كانا ملتزمين بمنع التغيير في الشرق الأوسط.

وفي ذلك الوقت شمل التغيير أيضًا إنشاء وطن يهودي في فلسطين.

غرب إمبريالي

تفند رواية كرام واحدة من أكثر الخرافات إلحاحًا في الشرق الأوسط: أن بريطانيا والولايات المتحدة أنشأتا إسرائيل باعتبارها مركزًا لـ"الغرب الإمبريالي" في العالم الإسلامي. يظهر كرام أن القوتين الغربيتين، البعيدتين عن إنشاء إسرائيل كدولة، فعلتا ما كان بوسعهما ليمنعا ولادتها. وكان تصميم اليهود واستعدادهم للقتال هما ما أرغم القوتين على الاعتراف ببروز إسرائيل كدولة.

ويبين تاريخ العقود الستة الماضية أن كرام كان على حق. كان الرهان على "الرجال الأقوياء" العرب خاطئًا أخلاقيًا وقصير النظر سياسيًا. فبعد مرور خمس سنوات على البعثة الإنكليزية-الأميركية، حل محل النظام الملكي الإقطاعي في مصر نظام عسكري يساري كان ينظر إلى بريطانيا والولايات المتحدة بوصفهما ضامنتين للنظام البائد، وسرعان ما تحول إلى السوفيات طلبًا للدعم. وبعد ست سنوات من ذلك انهارت الركيزة الثانية للسياسة البريطانية في الشرق الأوسط عندما أطاحت مجموعة أخرى من الضباط العسكريين اليساريين بالملكية التي كانت بريطانيا أسستها في العراق. وبين الجانبين، وجد "الرجال الأقوياء" في سوريا أيضًا طريقهم إلى مزبلة التاريخ. وبحلول عام 1960، كان التحول الذي حاول البريطانيون منعه في الشرق الأوسط حدث في كل مكان تقريبًا، ما جعل القوى الغربية بلا حليف جدير بالثقة باستثناء إسرائيل، الدولة التي حاولت هذه القوى منع بروزها.

والمفارقة المأساوية في هذا كله أن البريطانيين افترضوا أن الجماهير العربية لن تقبل دولة يهودية في فلسطين، لكن كرام وجد أدلة على العكس من ذلك. فقد أخبره كل من العرب واليهود في فلسطين بأنهم كانوا قادرين على العيش والعمل معًا، وبأنهم في بعض الحالات كانوا في الواقع راغبين في ذلك. وكان متروكًا لبريطانيا وللولايات المتحدة بدرجة أقل إظهار القيادة ومساعدة العرب واليهود في إنشاء هياكل الدولة التالية للاستعمار التي كانت ضرورية لتعايشهم.

يقتبس كرام عن مؤيد عربي بارز للإصلاح: "إذا كانوا على يقين من رغبة بريطانيا وأميركا في الجمع بين اليهود والعرب، سنتمكن من ذلك. لكنهم غير مقتنعين، هؤلاء الزعماء العرب: هم يريدون الحفاظ على موقعهم من السلطة، وهم يدركون أن هذا يتوقف على تقبل سلطة وزارة الاستعمار {البريطانية}".

يحتفلون بقرار الأمم المتحدة إنشاء دولة يهودية وتقسيم فلسطين إلى دولتين، يهودية وفلسطينية، في تل أبيب في 29 نوفمبر 1947

مثال فاضح

وبينما عارضت بريطانيا إنشاء دولة يهودية، سارعت إلى إنشاء دولة عربية في فلسطين الخاضعة إلى الانتداب. لكن هذه الدولة لم تكن دولة للفلسطينيين. كانت إمارة مقتطعة للعائلة الهاشمية الحجازية كمكافأة لتعاونها مع بريطانيا العظمى خلال الحرب العالمية الأولى. وأُسمِيت الدولة المنشأة حديثًا إمارة شرق الأردن، في تجاهل لكون أراضيها غطت ما يقرب من 90 في المئة من فلسطين الخاضعة إلى الانتداب، في حين أن 90 في المئة من سكانها كانوا عربًا من الانتداب البريطاني على فلسطين.

رأى كرام في هذا الأمر مثالًا فاضحًا على السخرية الاستعمارية، وأوصى الولايات المتحدة برفض قبول عضوية شرق الأردن في الأمم المتحدة. ويكتب قائلًا: "لا شك في أن إبعاد شرق الأردن من شروط الانتداب كان انتهاكًا لغرضه الأصلي".

لا يسعنا إلا أن نخمن شعور كرام بالغضب. في حين استخدمت بريطانيا قوتها العسكرية والدبلوماسية لمنع دخول الناجين اليهود من المحرقة النازية إلى فلسطين، كانت وزارة الاستعمار تنشئ إمارة لعائلة عربية ثرية يعيش أفرادها في بريطانيا في منفى ذهبي ولا يشعرون بأنهم بلا مأوى.

لقد أحزن كرام ما اعتبره تغييرًا في مسار بريطانيا باسم السياسة الواقعية. لكنه لا يوجه نقدًا لاذعًا. فالقوى الكبرى ترتكب أكبر أخطائها باسم الواقعية والمنفعة. ويكتب قائلًا:

"من المأساوي أن بريطانيا العظمى اليوم تبدو أنها نسيت النية الأصلية لدى رؤيويها الذين عرفوا ما كانوا يبنونه ولماذا. لكن يتعين علينا على رغم ذلك أن نكون حريصين، في الحكم على بريطانيا، وأن نتذكر أننا نحن الأميركيون أيضًا عرضنا إلى الخطر مبدأ الحرية الأساسي لأسباب تتعلق بالنفعية. لقد استرشدنا برجال الدولة البريطانيين الذين أسندوا سياستهم في المناطق المتخلفة من الأرض على التعاون مع الحكام المحليين بدلًا من تعزيز المصالح الحقيقية للجماهير. وكان مسارنا مسارًا من الازدواجية، مع تعهدات علنية وسرية متعارضة. وأنا على يقين من أن متخذي القرارات السياسية لم يتمكنوا من القيام بهذا إلا بسبب الافتقار إلى الفهم الشعبي الواضح للمسائل المطروحة".

إيضاح جذري

لا يزعم كرام بأي شكل قدرة على التنبؤ. لكن يبدو أنه بعدما أمضى بعض الوقت في الشرق الأوسط الذي صدر القدرة على التنبؤ لآلاف السنوات، اكتسب رؤية افتقر إليها معظم زملائه من أعضاء بعثته. في سلسلة من المقترحات المتعلقة بالسياسات في نهاية الكتاب، يتوقع ما يُسمَّى بحل الدولتين الذي لم يصبح سياسة رسمية للولايات المتحدة إلا عام 2004 في عهد الرئيس جورج دبليو بوش. كذلك يصر على وجوب "الإيضاح الجذري لافتقار الدول العربية إلى موقف خاص في ما يتعلق بفلسطين".

وتحققت أمنية كرام عام 1980 في قمة الخرطوم عندما تخلت جامعة الدول العربية في نهاية المطاف عن مزاعمها في ما يتصل بفلسطين، وقبلت بأن تُترَك المسألة لإسرائيل والفلسطينيين. وبفضل قدرات كرام الاستثنائية في المراقبة والملاحظات الدقيقة التي سجلها، نجمع لمحات دالة عن عدد من الشخصيات المهمة التي أدت أدوارًا أكبر في السنوات اللاحقة.

في هذا السياق تظهر شخصيات مثل الحبيب بورقيبة، الأب المستقبلي لاستقلال تونس. كان في ذلك الوقت مواطنًا فرنسيًا ومحاميًا، وجنده العرب لعرض الحجة المناوئة لإنشاء وطن يهودي في سلسلة من جلسات الاستماع التي نظمتها البعثة الإنكليزية-الأميركية. وبعد عقد، أصبح بورقيبة نفسه أول زعيم عربي يوصي بالاعتراف العربي الكامل بإسرائيل. كذلك نلتقي بحسن البنا، المدرس المصري الغامض الذي أسس الإخوان المسلمين، وهي تنظيم ديني يميني استخدمه البريطانيون في كثير من الأحيان ضد اليسار في مصر. هنا يُرسَل البنا لكي يدعم الموقف البريطاني ويجادل لصالح ضم فلسطين إلى "عالم عربي" غير محدد المعالم.

حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين

...وعينان متوهجتان

ويصف كرام جد الإرهاب الإسلامي المعاصر بأنه "شخصية ذات شعر أسود وبنية متينة وعينين متوهجتين".

وفي ترديد للمزاعم البريطانية، يقول البنا للجنة الإنكليزية الأميركية إن المسلمين لن يقبلوا أبدًا بدولة يهودية في صفوفهم.

ويكتب كرام قائلًا: "أصر البنا على أن القرآن ذكر المسيحيين والمسلمين بإيجابية، لكنه لم يورد أي شيء إيجابي عن اليهود، وأن الروابط بين اليهود وفلسطين لم تكن تعني شيئًا لأن هذه الروابط كانت تتعارض تمامًا مع القرآن والممارسات الإسلامية".

وبالمناسبة، يصف كرام الإخوان المسلمين بأنها "منظمة دينية فاشية"، مفندًا بالتالي الزعم بأن "المحافظين الجدد" اخترعوا مفهوم الفاشية الإسلامية في القرن الحادي والعشرين.

ومن بين الشخصيات الأخرى التي أرسلها البريطانيون في ما بدا إنتاجًا مسرحيًا سماحة الشيخ أحمد مراد البكري الذي حمل اللقب الرفيع شيخ مشايخ الطرق الصوفية، لكنه كان يتلقى راتبًا من وزارة الاستعمار البريطانية. كذلك نلتقي بمحمد فاضل الجمالي الذي تولى لاحقًا منصب رئيس وزراء العراق بفضل البريطانيين قبل أن يقتله ضباط موالون للسوفيات استولوا على السلطة عام 1958. في ذلك الوقت أراد الجمالي تسليم الجزء الساحلي من فلسطين الخاضعة إلى الانتداب إلى العراق.

ثم كان هناك عزام باشا، الأرستقراطي المصري، الذي قال للجنة إن الغرب، وليس اليهودي، هو الشر في نظر العرب. وقال إن اليهود الأوروبيين كانوا يُؤتَى بهم إلى الشرق الأوسط باعتبارهم "غربيين متخفين" و"بأفكار إمبريالية". لكن في موقف مناقض، كان عزام نفسه يدعو بريطانيا إلى ترك مصر تضم السودان!

ونفى السوريون الذين أدلوا بشهاداتهم أمام اللجنة وجود كيان فلسطيني على الإطلاق، وجادلوا بأن فلسطين الخاضعة إلى الانتداب يجب أن تُسلَّم إلى النظام العسكري في دمشق.

ومن اللافت للنظر على رغم معارضة العرب جميعًا لإقامة دولة يهودية في أي جزء من المنطقة الخاضعة إلى الانتداب، أن القليل منهم كانوا على استعداد للتلميح إلى إمكانية إنشاء دولة للفلسطينيين العرب. فقد أصر السوريون على أن فلسطين جزء من سوريا في حين كانت لدى المصريين مزاعمهم الخاصة. واعتقد العراقيون بأن فلسطين تنتمي إليهم بالفعل لأن "الخط الساحلي الفلسطيني يمثل ميناء العراق البحري"، على حد تعبير الجمالي.

رؤية هرتزل

في كتابه، لا يخفي كرام الجانب الذي يحظى بتأييده. هو في صف اليهود الذين جاءوا إلى فلسطين لبناء بلد جديد. لكنه ليس في صفهم فقط، أو حتى إلى حد كبير، لأنهم يهود. وهو لا يساندهم فقط لأن العديد من اليهود عانوا على أيدي النازيين. يعتقد كرام بأن اليهود في فلسطين قادرون على جلب العالم الحديث إلى العرب أيضًا، وهي رؤية طرحها تيودور هرتزل في كتابه "الدولة الجديدة القديمة"، وهو واحد من النصوص المؤسسة للصهيونية.

فدولة يهودية قد تكون نموذجًا للحداثة والديمقراطية يستطيع العرب أن يتبنوه. واعتقد كرام بأن العرب يحتاجون إلى جرعة من روح الإبداع نفسها، وحب العمل الشاق، والتضامن الاجتماعي، والمساواة التي ميزت المستوطنات اليهودية إلى جانب القرى العربية الفقيرة وغير الصحية. وأُصِيب كرام بصدمة عندما لم يظهر أي من الشهود العرب الذين أدلوا بشهاداتهم أمام البعثة أدنى اهتمام بتحسين حياة الجماهير العربية.

ويكتب قائلًا: "يشعر المرء بإحساسهم الدائم بالقدرية. فالطفل الذي يولد مشلولًا يخوض غمار حياته وهو يعرج؛ والطفل الذي يُصَاب بالعمى نتيجة للتراخوما هو ضحية لإرادة الله وليس إرادة الإنسان. ومن يستطيع أن يقول إن الله اختار خطأ حين انتقى هذا الطفل؟".

تيودور هرتزل على شرفة فندق "الملوك الثلاثة" في بازل، سويسرا ، في 1897، كما هي منشورة على موقع ويكيبيديا

بالنسبة إلى كرام، يقع اللوم على الطبيعة والقوى الإمبراطورية التي هيمنت على العرب لقرون. ويكتب قائلًا: "لم ألُم العرب: كانوا نواتج لبيئة مادية قاسية حيث تستنزف الطبيعة القوة والحيوية. وهم نواتج لبيئة سياسية واجتماعية لم تسفر إلا عن مفاقمة عجزهم. فطيلة أربعة قرون في ظل الحكم التركي، خضعوا إلى كل ضغط من ضغوط الجهل. لم يكن للرفاه الإنساني أي دور في الإمبراطورية العثمانية. لقد أشير إلينا بحق إلى ما يلي: في ما يخص الشرق الأوسط، ما كانت الثورتان الفرنسية والأميركية لتحدثا قط. فمبدأ حقوق الإنسان والحرية الشخصية – المفهوم القائل إن الإنسان لديه كرامة كإنسان والقوة الكامنة لرفع نفسه من وحل الوجود الحيواني – لم يكن اخترق حصون الاستبداد الإسلامي".

الحجج والأعذار نفسها

لم يكن بوسع كرام أن يعرف أن القرار الإنكليزي-الأميركي بالوقوف في شكل فاعل إلى جانب المتسلطين العرب من شأن أن يولد بمرور الوقت أربعة حروب كبرى وسبعة عقود من التوتر والنزاع في منطقة ذات أهمية حيوية بالنسبة إلى القوى الغربية. إلا أنه كان يعلم تمام العلم أن النخب العربية الحاكمة ليست مستعدة لقبول وجود دولة يهودية وأنها ستواصل استخدام القضية الفلسطينية كوسيلة لتحويل انتباه شعوبها عن مشاكل حقيقية مثل الطغيان والإرهاب والفقر. ولا يزال العديد من القادة العرب يستخدمون الحجج والأعذار نفسها التي كانوا يسوقونها قبل 70 سنة. والسبب وراء ذلك أن العديد من الدول العربية فشلت في تحديث نفسها وتحقيق التحول الديمقراطي. وفي كثير من الحالات، لا تزال هذه الدول تسلطية كما كانت عند نهاية الحرب العالمية الثانية. فأنظمة من هذا النوع لا تستطيع أن تتصور منافسين أو خصومًا بالمعنى السياسي الطبيعي للمصطلحات. وما تحتاج إليه هو "عدو" يمكن شيطنته لأسباب دينية وإثنية وإيديولوجية. ولا تزال إسرائيل تناسب هذه الأهداف.

ترسم تقارير التنمية البشرية التي أعدها مفكرون عرب في السنوات القليلة الماضية صورة تشبه إلى حد لافت للنظر الصورة التي صدمت كرام قبل ستة عقود. وتظل إسرائيل العدو لأنها تشكل، كونها ديمقراطية وحديثة وناجحة اقتصاديًا وواثقة بنفسها، "الآخر" الجوهري للدول التي تظل تسلطية، وشبه قروسطية، وذات أداء اقتصادي قاصر، ومبتلاة بالشكوك الذاتية. والسلام الحقيقي، الذي يعني السلام الدائم و"الدافئ"، ليس من الممكن أن يتحقق إلا بين دول منظمة وفق مبادئ متماثلة وتتحلى بقيم مماثلة. فقط المتماثلون يستطيعون التعايش في سلام دافئ. أما أفضل ما قد تأمل الدول المستندة إلى مبادئ متباينة فهو وقف لإطلاق النار أو سلام "بارد".

وهذا يعني أن الدول العربية، ما دامت لم تتحول إلى الديمقراطية، أي لم تحول نفسها إلى مجتمعات حديثة تستند إلى حكم القانون، لا يمكنها أن تعيش في سلام دافئ مع إسرائيل أو أي ديمقراطية أخرى. وبعبارة أخرى، يعتمد السلام الحقيقي، وبالتالي الأمن الإسرائيلي المطلق، على الإصلاح والتحول الديمقراطي في المنطقة. وفي الوقت نفسه، وعلى رغم ضرورة بذل كل جهد ممكن لتعزيز السلام، حتى في نسخته "الباردة"، أي وقف لإطلاق النار باسم أكثر جاذبية، تظل اليقظة المسلحة ضرورية. وعلى رغم أن الحرب سيئة السمعة هذه الأيام، هناك مناسبات تكون فيها الوسيلة المعقولة الوحيدة لمنع وقوع مآسٍ أكبر. ومن الأهمية بمكان لإسرائيل أن تفهم أنها متورطة في لعبة طويلة يشكل فيها الصبر والصمود مفتاحًا للنجاح المطلق الذي يعني في حالتها البقاء. فإن من شأن بناء السياسات على إصلاحات سريعة أو البحث عن حلول إعجازية أن يولد مزيدًا من التعقيدات، كما حدث مع إعادة تأهيل ياسر عرفات من خلال اتفاقات أوسلو.

الرئيس الأميركي بيل كلينتون (وسط) يقف بين زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات (إلى اليمين) ورئيس الوزراء الإسرائيلي يتسحاق رابين (إلى اليسار) وهما يتصافحان في 13 سبتمبر 1993 ، في البيت الأبيض في واشنطن العاصمة.

ما زال هشًا

يبين كتاب كرام القيم بوضوح أن أي قدر من السياسة والدبلوماسية ما كان لينقذ "الوطن" اليهودي الذي لا يزال هشًا من الدمار الشامل، وهو احتمال ما كان لوزارة الاستعمار البريطانية لتندم عليه.

فما أنقذ اليهود كان استعدادهم للقتال حتى عندما بدت الاحتمالات المعاكسة مكدسة بكثافة ضدهم. وكما يظهر كرام، كانوا مستعدين للقتال لأنهم كانوا يعرفون أنهم كانوا يقاتلون من أجل أنفسهم وليس من أجل سيد ورئيس تسلطي. كان سعي ديفيد بن غوريون الصلب إلى إقامة دولة يستند إلى فهم مفاده بأن المثالي قد يكون عدوًا للحقيقي. ولهذا السبب قبل أن يبني دولة حلمه على قطعة صغيرة من الأرض مليئة بالثغرات مثل الجبن السويسري. فالأمر المهم كان تحويل قضية إلى دولة في أسرع وقت ممكن.

كان النزاع في الشرق الأوسط، ولا يزال إلى حد كبير، صراعًا بين المستقبل والماضي، وبين الديمقراطية والطغيان، وبين مجتمع مفتوح ومجتمعات مغلقة. وهو يبين أيضًا قتالًا بين المثالي، الذي يمثل بالنسبة إلى العديد من الشيوخ الفلسطينيين تدمير إسرائيل، والواقعي الممكن الذي يمثل تعايشًا بين دولتين حتى في سياق سلام بارد. إن كثيرًا مما كتبه كروم قبل 70 سنة لا يزال صحيحًا اليوم.