عبد الجبار العتابي من بغداد:في جلسة استثنائية وربما جديدة على اتحاد الادباء في العراق، اقيمت اصبوحة فاضت على دقائقها المياه، ووقف وسط القاعة نهرا دجلة والفرات مغرورقين بالاسى، ويتلفتان في الجهات ويرتجفان من النقص الحاصل فيهما من الماء ودبيب الجدب على مساحات كبيرة، بالاضافة الى انهما كانا يشكوان المياه الثقيلة التي تتدفق في احشائهما، ويشيران بعيون متعبة وأياد معروقة الى اوجاع راحت تضرب طولهما وعرضهما..

كانت هذه الصورة هي الشاخصة في المكان الذي اجتمع فيه حشد من الادباء والاعلاميين العراقيينالذين أعلنوا رثاءهم لما يمر به النهران العظيمان الخالدان، كما اعلنوا حماسهم الى وجوب بذل الجهود الكبيرة من اجل رعاية النهرين، مستغربين من الصمت الذي يضرب المجتمع ولم يفكر احد ان يخرج في تظاهرة للفت الانتباه الى حالة النهرين والاعلان عن الفخر بهما والدفاع عنهما لاسيما انهما سر الحياة لبغداد وسواها من المدن العراقية، والاطرف والاكثر تأثيرا في الحضور هو المقترح الذي يدعو المساجد ان تسمح للمثقفين العراقيين والمعنيين في الشأن المائي لإلقاء خطب يوم (الجمعة) لمدة شهر كامل حول ما اصاب نهري دجلة والفرات من اجل تثقيف الناس وتوعيتهم الى خطورة ما يتعرض له النهران.

كان هذا بوضوح موضوع الجلسة التي حملت عنوان (المبادرة العراقية للمياه... الماء حق لكل انسان) والتي استضاف فيها اتحاد الادباء مع المهندسـة الســيدة شــروق العبايجي، الناشــطة النسـوية والمشـــرفة على هذه المبادرة، وكانت عبارة عن بكاء خفي وشجن شفيف، لان النهرين شخصا امام أعين الجميع وكأن هذه المرة هي الاولى التي يتم فيها التنبيه اليهما، حتى ان كمية من التأوهات صدرت من بعض الحضور، وهي التي اشعلت ردود الافعال التي جاءت عبر المداخلات والتساؤلات التي لم يقطعها سوى انتهاء الوقت المخصص للمحاضرة.

قدم للاصبوحة احمد خالص الشعلان، لكن الكاتب على الفواز هو الذي افتتحها بكلمة تمهيدية تعريفية قال فيها: هذه الجلسة الاستثنائية تنطلق من اننا بدأنا لا ننظر الى الثقافة على انها الشعر والسرد والنقد وما يقوم بينها من تفاصيل، بل هي كل ما يمس الانسان ويعين الانسان على صناعة حياته ومعيشته.

واضاف: تاريخ العراق ارتبط بسلسلة من الحضارات، وان الكل يعرف ان العراق اشتهر باسم بلاد ما بين النهرين، هذا الاسم الاسطوري الذي ارتبط بوجود حضارات معينة ما كانت لتكون لولا وجود الماء، الماء هذا السر المقدس ليس في الاديان والميثولوجيا وانما هو سر الوجود المقدس الذي اسهم في صناعة الحضارات، فالمدن شيدت على الماء والغزاة جاءوا الى العراق لان فيه ماء، والماء هو المقدس وليس النفط، انه اقدس من النفط، يقال ان الازمة المقبلة في العالم هي ازمة ماء وان الدول ستتحارب على الماء، وعلى الرغم من ان ثلاثة ارباع الكرة الارضية الا انه غير صالح للشرب بل للقتل والغرق.

وتابع: حينما يتحدث العالم القديم عن المقدسات والعجائب السبع وانا اضع فكرة ان يكون نهرا دجلة والفرات من اعاجيب العالم، وان الحفاظ عليهما مهمة دولية واخلاقية ووطنية ينبغي ان تنهض بها الدولة العراقية والمنظمات العالمية.

ثم تحدث الشعلان فأبتدأ كلامه هكذا: صدقوني.. ارى وجهها في الماء، الماء كان المرآة السحرية التي يرى فيها وجه الحبيبة، وانني لم أسرق هذا القول من المطربة سليمة مراد (يايمه ثاري هواي.. سلوه الي بدنياي / بالكاس اشوفه يلوح.. لو ردت اشرب الماي)، ثم اضاف: تلقيت قبل اشهر دعوة للانضمام الى مبادرة جديدة جادة اسمها (المبادرة العراقية للمياه والبيئة) والتي بادرت الى تشكيلها السيدة شروق العبايجي، وانني بعد تلقي الدعوة اردت ان اجعل لاتحاد الادباء دورا من خلال دعوتي له بالانضمام والقيام بدور ما استنادا الى الدور الذي يقوم به المثقف العضوي للمشاكل التي يمر المجتمع بها، اننا الان في شح من الماء، كيف نعالج الامر ونقوم بخطوات كمثقفين للارتقاء بوعي الناس حول الماء، وأشار الى ان العراقي على عكس العالم يرى ان الماء مبذول ورخيص ومتاح لذلك هو حين يضرب مثلا عن الرخص يقول (يا معود.. برخص المي)، موضحا: ان هذه المبادرة محاولة لابد ان ننقلها لصالح الاجيال القادمة.

ثم اتاح الفرصة لرئيس اتحاد الادباء والكتاب فاضل ثامر الذي قال: كلنا نتذكر عندما كنا ندخل درس الجغرافية ويطلب المعلم منا رسم خارطة العراق، سرعان ما نرسم نهري دجلة والفرات لتكتمل الخارطة، فهل يمكن للاجيال القادمة ان ترسم الخارطة من دون النهرين؟، هناك من يريد ان يسرق منا النهرين، وأضاف: لدينا في الثقافة العراقية الموقع الكبير الذي يمثله الماء، ارجعوا الى اسفار الخلق وملحمة غلغامش ستجدون الكثير من القصائد وستجدون الحوار اليومي مع الماء، مع الانهار والاهوار والينابيع في الشمال، وتدرس فيه الرواية والمسرحية والشعر والموروث الشعبي، كل حياتنا مرتبطة به، حتى تصميم المدن، كل المدن.. على ضفاف النهرين.

وتابع: نحن نطمح ان نرفع مستوى الادباء الى مستوى الوعي المثقف الموضوعي، وهذه الاستضافة ما هي الا تعبير عن موقف الاتحاد من هذه مسألة المياه التي قد تصبح مسألة حياة او موت.

ثم ارتقت المنصة السيدة شروق العبايجي وكانت اكثر حماسا في اطلاق التحذيرات لما سيؤول إليه حال النهرين من خلال تصوراتها الواقعية ودراساتها الميدانية ومواكبتها لمراحل التردي، فقالت: المحاور التي اعتمدناها في المبادرة لتكون شاملة وليست مقتصرة على جانب واحد، وادعو الى التفكير بجدية بقضية المياه والبيئة بطريقة علمية بحتة وليس بطريقة تداول الشعارات، مفاهيم الازمة المقبلة وحرب المياه ذكرت منذ ستينات القرن العشرين وسبعيناته والعالم تنبه الى التغيير في الموارد المائية.

واضافت: هناك تلويث المياه من خلال رمي مخلفاتنا الصناعية في هذه الانهار دون ان نقوم بمعالجتها، وهذا أصبح من الوسائل الروتينية في العالم، هناك دول تعالج الماء ثلاث مرات ويعيد استخدامها، وهناك الهدر المتعمد، هناك من يقول ما دام الماء وصل الى بيتي فأنا حر به، وهذه الظاهرة في كل بيت عراقي، اتمنى ان يكون دور المختصين التركيز على هذا الجانب المهم ومعالجة هذا الهدر المقصود.

وتابعت: من الجانب القانوني وبعد سنوات الجفاف تتعالى الاصوات بالضغط على تركيا من اجل تأمين حصة من خلال اتفاقية، وتتجاهل ان القانون الدولي فيه فقرات توصلنا الى حل افضل، وهو ان لا تتضرر الدول من قبل الدول التي لديها منابع المياه وان تكون هناك مشاورات مشتركة قبل اي اجراء هندسي.

وأكدت العبايجي: العراق لم يشهد خلال تاريخه كله مثل هذا التدهور الحاد في واقعه المائي، ولم يسبق ان تهددت مصلحة المجتمع العراقي بمثل هذه الحدة بسبب شحة المياه والظواهر التي خلفتها مثل التصحر وتزايد العواصف الترابية بشكل مريع، وهو ما يؤدي الى تزايد ظهور الاوبئة والامراض بسبب تدهور نوعية المياه وعدم اتخاذ الوسائل الفعالة لمعالجتها، وهناك دول تضخ الينا المياه الثقيلة.

وأشارت العبايجي الى ان (المبادرة العراقية للمياه) تهدف الى تحشيد الموارد البشرية والطاقات المعرفية لحماية الموارد المائية في العراق وتعميق الوعي بأهميتها لاستقرار المجتمع العراقي وازدهاره وتقدمه باعتبار المياه من اهم عوامل توفير الامن الانساني، كما تهدف الى نشر الوعي العام في الاوساط المدنية والحكومية بقضية المياه في العراق بما يتعلق بالتعامل السليم مع مواردها والحفاظ على نوعيتها وتبني الوسائل الحديثة التي تمنع الهدر الكبير في طرق استخدامها سواء في السقي او في الاستخدامات المنزلية وفي عملية غسل السيارات المنتشرة في ارجاء عديدة من البلاد او غيرها، كذلك تهدف الى تطوير الوعي المؤسساتي بكيفية الاستفادة من مبادئ القانون الدولي في ضمان حق العراق في الحصول على حصته من المياه، وحض الجهات المسؤولة على عقد الاتفاقيات طويلة الامد مع دول الجوار المتشاطئة مع العراق.

ثم تحدث الخبير القانوني طارق حرب الذي افاض في الحديث عن اهمية الماء وبعض الذكريات فذكر اولا الاية القرآنية الكريمة (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) مؤكدا ان مبدأ الشريعة يتفق مع مبدأ القانون، موضحا ان القانون العراقي يعاقب كل من يهدر الماء حتى وان كان لمجرد رش الماء في غير محله، كما اشار الى الماء يتم فيه التطهر من كل ذنب، وعند الصابئة المندائيين يجب على المرأة ان تغتسل في النهر وهو كناية على انها تطهرت، وأضاف: الماء بعد ان كان وبالا علينا في الثلاثينات، وفي (حلف بغداد) من الشروط التي وضعها الباشا نوري السعيد رئيس وزراء العراق الاسبق هو (اقامة سدود من الجانب التركي) لحماية بغداد من الغرق !!، كما اشار الى ان بغداد المدينة الوحيدة في العالم التي تشرب الماء من نهرين (دجلة والفرات) مشيرا الى نهر (ابو غريب) الذي يأخذ ماءه من الفرات.

وطالب طارق حرب من ائمة المساجد ان يسمحوا للمثقفين العراقيين والمعنيين بالشأن المائي لمدة شهر بإلقاء خطب الجمعة من اجل توعية الناس وتعريفهم بالمشكلة الحالية، وهذا المقترح ايده الحاضرون وتفاعلوا معه في تأكيدات منهم ان منبر المساجد مهمة جدا واكثر تأثيرا في الناس.

كما جاءت مداخلات العديد من الادباء موضوعية ولم تستغرب ان يتخذ اتحاد الادباء مثل هذه الخطوة المميزة كونها تمس صلب المجتمع العراقي، وان المثقفين تقع على عاتقهم مسؤولية اكبر، وحملت مداخلاتهم افكارا خلاقة من اجل توعية الناس وتنبيههم الى هذه المسألة الخطرة، فيما استغرب البعض من عدم اقامة اية تظاهرات احتجاجية طوال السنوات الماضية التي اصبح فيها النهران يشكوان الجفاف، فيما خشي البعض ان يتحول النهران الى (اوتوستراد) لمرور السيارات بعد ان يجفا تماما، كما طالبوا بالتحرك على مختلف الاصعدة الحكومية ومنظمات المجتمع المدني لانقاذ تاريخ العراق وحضارته المتمثلة بهذين النهرين، وكانت المناسبة فرصة لاطلاق مقترح ان يؤسس اتحاد الادباء مركز دراسات استراتيجية.