أصفهان (إيران): يتفيّأ جلال مير أحمدي بالأشجار على ضفة زاينده رود، مستعيدا ذكرياته قرب نهر كان شريان حياة دائماً لأصفهان، لكن بفعل استثمار مياهه والجفاف، بات جريانه مشهداً نادراً في المدينة التاريخية وسط إيران.

ويقول مير أحمدي لوكالة فرانس برس وهو ينظر نحو مجرى النهر تحت أشعة شمس لاذعة "أستذكر عندما كنت طفلاً، كان الناس يأتون الى هنا، كان النهر مليئاً بالمياه ويجري بشكل دائم".

ويضيف الخبّاز الذي يبلغ 67 عاماً ويبرز في وجهه الدائري شاربان غزاهما الشيب "لم يبق لنا سوى الذكريات من تلك الأيام الجميلة".

برفقة اثنين من أصدقائه، يتأمل مير أحمدي جمعاً من الأشخاص على جسر خواجو (تُلفظ خاجو)، أحد الجسور الأثرية على المجرى المائي الأطول في وسط الجمهورية الإسلامية، والممتد لمسافة 400 كلم من جبال زاغروس غرباً الى بحيرة كاوخوني شرقاً.

أطفال وشبان وشابات وكهول يتجمعون على ضفاف النهر... في ظلال حجارة خواجو الصخرية، يستغل البعض الفرصة لالتقاط الصور، ويضع آخرون قدميهم في المياه المنسابة ببطء يلاقي الإيقاع الحزين لصوت رجل يؤدّي أغنية قديمة عن حبِّ جرفه الزمن.

ذكريات

يؤشّر مير أحمدي الى الناس، ويعلّق متحسّراً "ترون هذا الجمع اليوم. بعد أيام، عندما تجفّ مياه النهر، لن تروا سوى المسنّين مثلنا".

ويتابع "نحن نأتي من أجل ذكرياتنا".

على عكس الجيل القديم، ذكريات الجيل الشاب في المدينة هي عن مجرى جاف نادراً ما عرفت المياه إليه سبيلاً.

وتقول طالبة الفنون مهناز (27 عاماً) لوكالة فرانس برس خلال استراحة من التقاط الصور بكاميراتها الاحترافية "منذ تعلمت التصوير، لم التقط صوراً جيدة عن انعكاس الجسر على المياه، لأن النهر جاف".

مثلها أمير، الطالب البالغ 18 عاماً، والآتي لتمضية وقت مع أصدقائه. يقول الشاب النحيل الذي ارتدى سترة سوداء اللون ووضع نظارتين "عندما كنت طفلاً، كنت آتي الى هنا يومياً تقريباً(...). حالياً، آتي الى المكان مرتين أو ثلاث كل شهر".

ويتابع بأسف "غالبية ذكرياتي وذكريات أبناء جيلي ترتبط بجفاف النهر".

اقترن زاينده رون بأصفهان منذ القدم. وصفه حافظ الشيرازي، أبرز شعراء اللغة الفارسية الذي عاش حياته في القرن الرابع عشر، بـ"ماء الحياة" للمدينة العابقة بالتاريخ.

لكن هذه العلاقة بدأت بالتبدل منذ نحو عقدين، مع بدء سكان ثالث كبرى مدن إيران، وعددهم نحو مليوني شخص، يعتادون جفاف مياه النهر في معظم فترات السنة.

وكانت بداية التبدل مع تحويل مياه النهر الى مناطق أخرى خصوصاً محافظة يزد المجاورة، وزادت مع الجفاف الذي يضرب مناطق واسعة في إيران التي تعرف مناطقها الوسطى والجنوبية بشحّ المياه وقلة المتساقطات.

الجسور التاريخية

في غياب المياه، تفتقد جسور أثرية على مجرى النهر مثل خواجو وسي وسه بُل (جسر الثلاثة والثلاثين)، الرونق الذي يجذب السياح إليها.

ويقول المسؤول المحلي في وزارة السياحة والتراث محمد علي فصيحي "لا معنى لهذه الجسور التاريخية بلا مياه. تكتسي الجسور بمظهر وجمال متميّزين حين تجري مياه زاينده رود".

في منتصف أيار/مايو، بدت الفرصة سانحة لأهل اصفهان وزوّارها للاستمتاع بنهر متدفّق في بداية الأسبوع. كانوا بالمئات عند ضفتيه: بعضهم يلتقطون صوراً "سيلفي"، آخرون يرتشفون الشاي أو يدخنون النرجيلة تحت الأشجار، وعائلات مع أطفال تركب قوارب تعمل بدواسات.

على مقربة منهم، يقوم آخرون بالتنزه مشياً على حافات وقواعد أسفل سي وسه بُل، والعبور من جهة الى أخرى على مكعبات صخرية في مجرى النهر...

وشكّل تدفق مياه النهر فرصة لمحمد رضا عبداللهي، ابن مدينة تبريز الواقعة في شمال غرب إيران، ليمضي وقتاً طال انتظاره في رحاب اصفهان، ممارساً هوايته المفضّلة: الرسم.

ويقول الرجل الخمسيني بعدما أنجز رسم قسم من الجسر "لم آتِ الى أصفهان منذ عشرة أعوام بسبب جفاف زاينده رود. أردت البقاء لأسبوع أو اثنين، لكنني مددت الإقامة" بعد فتح بوابات السد لتحويل المياه الى النهر.

لكن ذلك لم يدم طويلاً: في منتصف الأسبوع ذاته، بدأ مستوى المياه بالانخفاض مجدداً، وهو ما بدا جلياً أسفل جسر خواجو بتقلّص عدد الممرات المائية الى نصف ما كانت عليه.

شحّ المياه

ويقول الناشط في مجال حماية النهر والتراث في أصفهان بورنا موسوي "زاينده رود هو مكان اللقاء لسكان أصفهان. عندما يكون الناس سعداء، يأتون الى هذا النهر وهذه الجسور للاحتفال. عندما يكونون حزينين، يأتون الى هنا للترويح عن أنفسهم".

ويعتبر أن توقف مياهه يوازي "فقدان فرد من العائلة أو أمّ لسكان اصفهان. زاينده رود هو بمثابة أمّ لنا".

منذ أعوام، يشكو سكان أصفهان من شحّ المياه. رفعوا الصوت عالياً في تشرين الثاني/نوفمبر في احتجاجات امتدت لأسابيع، وتخللتها شعارات مثل "مياه النهر تتعرض للنهب منذ عشرين عاماً"، و"على المياه أن تعود الى زاينده رود".

خلال فصل الربيع، رفعت بلدية المدينة عدداً من اللافتات في أنحاء مختلفة للتوعية على أهمية النهر والحفاظ عليه. الا أن العديد من السكان يخشون أن يتواصل تراجع منسوبه لدرجة يتحول معها الى مجرد ذكرى غابرة.

ويقول مير أحمدي لفرانس برس "اذا اختفى النهر، ستتحول أصفهان الى صحراء، وفي خلال أربعة أو خمسة أعوام، سيهجر الجميع المدينة".

ويضيف "هذا النهر أبقى أصفهان على قيد الحياة".