لم يستقبل المصريون رئيس الوزراء الأثيوبي مليس زيناوي بذات الطريقة التي استقبلوا بها اردوغان، ووفقاً للمراقبين فإن إسرائيل هي كلمة السر في توتر العلاقات بين مصر وإثيوبيا، وتوطيدها بين مصر وتركيا. وتأتي زيارة زيناوي بعد سنوات من الشحن الإعلامي تجاه أثيوبيا، بدعوى قيادتها دول حوض النيل للعمل ضد مصر.


زيناوي خلال لقائه شرف بالقاهرة

القاهرة: بينما أستقبل المصريون رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان استقبال الأبطال، لم يفعلوا الشيء نفسه مع رئيس الوزراء الأثيوبي مليس زيناوي، رغم أن العلاقات بين مصر وأثيوبيا الأقدم والأعرق، فضلاً على روابط الأهم في الفترة الراهنة، ألا وهي روابط نهر النيل، ووفقاً للمراقبين فإن إسرائيل هي كلمة السر في توتر العلاقات بين مصر وإثيوبيا، وتوطيدها بين مصر وتركيا، فضلاً على أن الشعب المصري عاطفي. مؤكدين أن أردوغان زار مصر بالتزامن مع أزمتها المتصاعدة مع إسرائيل، وعقب قراره طرد السفير الإسرائيلي من بلاده، ودعمه للقضية الفلسطينية، ورفض الحصار على غزة، ما أكسبه شعبية طاغية لدي المصريين. في حين جاءت زيارة زيناوي بعد سنوات من الشحن الإعلامي تجاه أثيوبيا، بدعوى قيادتها دول حوض النيل للعمل ضد مصر، بإيعاز من إسرائيل، للتأثير على حصتها من مياه النيل.

علاقات عمرها آلاف السنين

تاريخياً، تعود العلاقات بين مصر وأثيوبيا إلى آلاف السنين بسبب نهر النيل، وتشارك المصريون القدماء مع الأثيوبيين التجارة، حيث كانت السفن التجارية المصرية تبحر في البحر الأحمر من وأهل أفريقيا، وكانت معروفة باسم quot;مملكة كوشquot; أو quot;بلاد بونتquot;، حسبما ورد في الكتابات المصرية القديمة في عهد الأسرة الثامنة عشرة التي حكمت مصر في الفترة من 1575إلى 1308 قبل الميلاد، وتجسد الرسوم على جدران معبد الملكة حتشبسوت التي حكمت مصر في الفترة من 1490إلى 1468 قبل الميلاد، بعثة بحرية أوفدتها الملكة إلى بلاد بونت للحصول على أشجار الكندر والأبنوس والبخور والمرّ والعاج وسواها، قيل إن تلك البلاد هي إثيوبيا.

وكانت السودان و بلاد الحبشة التي تضم أثيوبيا وإريتريا والصومال، جزء من الدولة المصرية التي أنشأها محمد على باشا في بداية النصف الأول من القرن التاسع عشر، حيث فتح إبراهيم باشا إبن محمد على السوادن وبلاد الحبشة في العام 1820.

علاقات روحية متينة قطعتها إسرائيل

كنسياً، توطدت العلاقات بين مصر وأثيوبيا في القرن الرابع الميلادي، حيث أعتنقت أثيوبيا المسيحية، وكانت الكنيسة القبطية في مصر بمكانة الأم للكنيسة الأثيوبية، وكان المطران أو البطريريك الأثيوبي يتم تعيينه من قبل البطريريك المصري، وذلك حتى العام 1948، عندما قررت أثيوبيا الإعتراف بإسرائيل، فحدثت قطيعة بين الطرفين، ثم ما لبثت أن عادت العلاقات الروحية بين البلدين مرة أخرى.

وكونت مصر بقيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر علاقات قوية ومميزة مع دول القارة الأفريقية جميعها، بإستثناء جنوب أفريقيا التي كانت تعاني من التفرقة العنصرية، وساند عبد الناصر جميع حركات التحرر في أفريقيا بالقدر نفسه الذي ساند به تلك الحركات في العالم العربي، وكانت يعتبر أن أفريقيا هي الإمتداد الطبيعي لمصر، لذلك أنشأ المصانع والمدارس والمستشفيات، وأرسل المساعدات إلى شتى الدول، مما كان له الفضل في أن تدين هذه الدول لمصر بالولاء.

وتجلى ذلك في وقوف الدول الأفريقية ضد محاولات بعض الدول العربية طرد مصر من منظمة عدم الإنحياز في أعقاب توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل في العام 1979، حيث تصدت الدول الأفريقية لتلك المحاولات، وأجهضتها.

محاولة إغتيال مبارك

حديثاً، لم تدم علاقات الود طويلاً، حيث تعرضت لتأزم الشديد، بسبب خلافات سياسية بين مصر وأثيوبيا، حول إستقلال أريتريا. وبدأت أثيوبيا في إستخدام ورقة مياه النيل في اللعبة السياسية. وأتسمت تلك العلاقات بالتوتر تارة والهدوء تارة أخرى، في عهد الرئيس أنور السادات الذي كان مشغولاً بإستعادة أرض سيناء، وتوطيد علاقاته مع الغرب، كان ذلك على حساب علاقاته مع أفريقيا والعرب.

شهدت العلاقات بين الجانبين نوعاً من الجمود منذ منتصف السبعينات، وحتى 1995، حيت تحولت من إلى توتر، وزادات توتراً في العام 2005، حيث شكلت محاولة إغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا نقطة تحول في تاريخ العلاقات ليس مع أثيوبيا فقط، ولكن مع القارة الأقريقية ككل، حيث أدار ظهره لها جميعاً، وولاه شطر الغرب الأمريكي بالكلية، وإزداد تولي مبارك بوجهه نحو أمريكا في منتصف العام 2005، مع بداية مشروع التوريث، أي توريث حكم البلاد لنجله جمال، الأمر الذي منح إسرائيل الفرصة للتوغل في أفريقيا، ولاسيما دول حوض النيل، وأقامت العديد من المشروعات الزراعية والصناعية والسياحية في تلك البلدان، وكانت أديس أبابا المستفيد الأكبر من تلك المشروعات.

إتفاقية عنتيبي

تصاعدت حدة التوتر أكثر فأكثر مع أثيوبيا في بداية العام الماضي، ووصلت ذروتها في 11 مايو 2010، عندما قادت مجموعة من دول حوض النيل هي: أوغندا ورواندا وتنزانيا وكينيا، للتوقيع على إتفاقية عنتيبي التي تخصم من حصة مصر التاريخية من مياه النيل، المقدرة ب 55.5 مليار متر مكعب، حيث نصت على أن quot;مرتكزات التعاون بين دول مبادرة حوض النيل تعتمد على الاستخدام المنصف والمعقول للدول، بأن تنتفع دول مبادرة حوض النيل انتفاعاً منصفاً ومعقولاً من موارد مياه المنظومة المائية لنهر النيل.

وهو ما تراه مصر في غير صالحها، لأنها تنتفع بالحصة الأكبر من المياه، نظراً لعدم وجود موارد أخرى لديها، فيما تتحصل باقي الدول على مليارات المترات المكعبة من المياه من منابع أخرى. وإزدادت الأزمة تعقيداً مع إعلان أثيوبيا منتصف أبريل الماضي عن البدء في إنشاء سد الألفية الجديد، الذي سوف يؤثر بشكل كبير على حصة مصر من المياه.

ثورة يناير فرصة ذهبية

سد الألفية الذي شرعت أثيوبيا في إنشائه

وشكلت ثورة 25 يناير فرصة ذهبية، لأعادة رسم العلاقات مع أثيوبيا من جديد، حيث قام المصريون بسلسلة من الزيارات الرسمية والشعبية رغم أنشغالهم بأزمات ما بعد الثورة، وتوجت بزيارة الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء، لأديس أبابا في 11 مايو الماضي، ووتأتي زيارة زيناوي رداً على سلسلة الزيارة المصرية، ووفقاً لما أعلنته الحكومة المصرية فإن الزيارة أثمرت عن توقيع ست اتفاقيات تتعلق التعاون بين البلدين فى مجالات: التعليم والتدريب، الموارد المائية، الثروة السمكية، الكهرباء والطاقة، الزراعة، إستيراد اللحوم. فضلاً على الإتفاق على حل أزمة المياه بالحوار، وتجميد إتفاقية عتنيبي وسد الألفية لحين تمكن مصر من دراستهمها جيداً.

إهمال مصر لأفريقيا

وفقاً للدكتور بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق فإن أزمة مياه النيل ترجع إلى إهمال مصر في الإهتمام بالقضايا الأفريقية منذ نحو الخمسين عاماً، حيث يعتقد البعض في مصر أنه نهر النيل مصري، وأن باقي الدول ليست في حاجة إلى مياهه، لأنها تمتلك مصادر أخرى من المياه، ومنها الأمطار الغزيرة التي تتساقط عليها طوال العام.

وأضاف لquot;إيلافquot; أن ذلك قد يكون حقيقياً في الماضي، ولكن حالياً تعاني هذه الدول من انفجار سكاني، فضلاً على أنها تحاول الإنتقال من الزراعة بالأمطار إلى الزراعة بالري العادي. مشيراً إلى أن العلاقات في العصر الحديث تقوم على المصالح المشتركة، وأنّ ما يحدث حالياً من الحوار و تبادل الزيارات وتوقيع الإتفاقيات التجارية والإقتصادية هو السبيل الأمثل لحل الخلافات.

ولفت غالي الذي يعتبر الأب الروحي للعلاقات المصرية الأفريقية، إلى أنه إقترح منذ سنوات إنشاء منظمة مشتركة بين هذه دول حوض النيل تكون مهمتها إدارة مياه النهر، و توزيعها وإستثمارها، بالشكل الأمثل وعدم إهدارها، و إنشاء المشروعات المختلفة على ضفافه، منوهاً بأن مثل تلك المنظمات معمول بها في شتى الدول التي تشترك في نهر واحد.

لا لنظرية المؤامرة

ورفض غالي نظرية المؤامرة التي تزعم بوقوف إسرائيل وراء المشاكل التي تعاني منها مصر بشأن مياه النيل، وقال إنه في الماضي كان هناك من يتبنى نظرية المؤامرة ويقول إن الإستعمار هو السبب في تعطيل التنمية، والآن هناك من يحمل إسرائيل المسؤولية، مشدداً على ضرورة العمل وفق لغة المصالح المشتركة، والتفاوض مع الجانب الأفريقي كله، وليس دولة واحدة فقط، لأن مصالح مصر ترتبط بهذه الدول جميعاً، ولاسيما دول حوض النيل.

إسرائيل سبب الأزمة

بالمقابل يرى محمد البحيري الخبير في الشؤون الإسرائيلية أن أزمة مصر مع دول حوض النيل تعتبر إسرائيل لاعب أساسي فيها.

وأوضح لquot;إيلافquot; أن إسرائيل لديها مشروعات زراعية ضخمة في أثيوبيا وكينيا وأوغندا، أقامتها خلال الفترة التي أدار فيها مبارك ظهره لأفريقيا بعد محاولة أغتياله في العام 1995، مشيراً إلى أن إسرائيل تعتبر نفسها الدولة رقم 11 في دول حوض النيل، وتطالب بحصة من المياه مقدارها 2 مليار متر مكعب لزراعة صحراء النقب، وذلك عبر ترعة السلام الممتدة إلى عمق سيناء. لافتاً إلى أن مصر عندما رفضت ذلك المطلب، بدأت إسرائيل في خلق مشاكل لها مع دول المنبع.

ولفت البحيري إلى إنه رغم قوة النفوذ الإسرائيلي في دول حوض النيل، إلا أن مصر تمتلك من الأدوات الكثير منها الصلات الروحية بين الكنيستين الأثيوبية والمصرية، بالإضافة إلى العلاقات التاريخية العميقة، والقرب الجغرافي، ووجود رصيد من الحب الأفريقي للمصريين منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فضلاً على حاجة مصر لأسواق جديدة لمنتجاتها الصناعية، لاسيما النسيج والأغذية، كما أن مصر لديها كوادر وقدرات كبيرة في مجال الإستثمار الزراعي والسياحي، وكل هذا يسهل من عملية إستعادة الثقة لدي الأفارقة من جديد.

المصريون مشغولون بالخليج والغرب

على الجانب الإسرائيلي، ووفقاً لدراسة بعنوان quot;الصليب والنيل.. مصر وأثيوبياquot;، يرى الباحث الإسرائيلي هاجائي إرليخ أستاذ التاريخ بجامعة تل أبيب أنquot; العقل المصري المشغول بالعولمة والروابط مع الغرب والمشاركة في ثروة الخليج لا ينبه في هذه اللحظة التاريخية لجنوبه، و لشعوب القرن الافريقيquot;. مشيراً إلى أن مصر الإسلامية ومصر العربية تري في أثيوبيا تارة صديق وتارة أخرى خطر وعدو شرير، وأضاف أن الفكر السياسي المصري يقوم على الحقوقي الحصرية والتاريخية لمصر في مياه النيل، في حين أن أثيوبيا ترى أن النيل ليس واهب الحياة لها، كما هو في مصر، بل هو سارقها لأنه يعري التربة ويجرفها من الطمي وينقله إلى مصر، كما ويجرف الانسان والماشية.

المياة كارت أثيوبيا للثراء

وأوضح أن quot;الوجود المصري عند الاثيوبيين إنحصر فقط في ابونا المسيحي، حيث يتم استبدال المياه بالأب فمصر تصدر المدد الروحي المتمثل في أبونا، وأثيوبيا تصدر مدد الحياه المتمثل في مياه النيل. اثيوبيا ليست مسيحية شرقية فقط، ولكنها كذلك قوة افريقية، ولها تفرد شخصية وهوية.

ومع أبعاد الشرق أوسطية فانها تخاف مصر التي تمثل أقوى ابعاد الشرق اوسطية، لاسباب تتصل بالاسلام والعزلة، لذا فإن الحصص المتساوية في مياه النيل، هو كارت اثيوبيا في نادي الشرق الأوسط وبطاقة التأهل للعضوية والثراء.