في ذكرى انقلاب شباط 1963 في العراق
حتى بداية القرن الثالث عشر قبل الميلاد، لم يكن لمفهوم (العفوـالتسامح) في قاموس الانسان اي وجود يذكر، ولكن مع نهاية هذه الحقبة التأريخية، وفي القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ولد المبشر موسى، والبابلي حمورابي.فوضع كل منهما في مرحلته، ومكانه لأول مرة في مسيرة البشرية، بعض مبادئ ـالعفوـالتسامح ـوكانت بحق نقلة نوعية في عملية تطور الشرعة الانسانية. لقد أستطاع هذان المبشران الكبيران، ان يسنا لشعوبهما، وللانسانية ايضا قوانين جديدة عظيمة متشابهة تقريبا، ثبتا من خلالها بدايات فلسفة العفوـالتسامح،بذلك اصبحا من عظماء قادة الإنسانية والضمير البشري!ا..


..فقد هزا وضربا بشكل موجع،قانون الغاب،.قانون الثأر الدموي ورغم إن جميع الأديان السماوية،أخذت بدعاواتهما ولكن لم تستطع البشرية الخلاص من قانون الغاب ونزعة الانتقام بشكل نهائي،حيث ما تزال بعض مفاهيمه وبنوده مترسبة في بعض القوانين الوضعية السائدة وفي الأعراف،وفي العقل اللاواعي الجمعي للناس،وليس بالغريب ان نشاهد حتى اليوم اثار ومفعول هذا القانون اللانساني سائدة في حياتنا الاجتماعية والسياسية!.

في طريق التسامح، يعتبر العفو الخطوة الحقيقية الاؤلى،..هنالك عوامل عديدة تساعد على القيام بالعفو..منها.
التغلب على الشعور الداخلي المتصلب والمفترس للاحساس الانساني. فمثلا عندما يتأمل الانسان ويتصفح ما سبق له ان عاشه،و يقلب في صفحات ذكريات مسيرة حياته، يرى صورا كثيرة متناقضة ومختلفة من حياته السابقة وربما الحالية ايضا..
تشغل الذاكرة، صوراً، جميلة، فرحة وسعيدة..وفي جانب آخر صوراً.

محزنة، مبكية،...فقدان بعض الاعزاء،فراق الاحباء،ملاحقة،توقيف،سجن،تعذيب،اعترافات،. لا تفتأ تسبب له الألم والحزن والكأبة..الخ
وفي قلب هذه الصور المختلفة وهذه الذكريات الموجعة، تبرز وجوه العديد من البشر الذين كانوا السبب المباشر للآلامه الدفينة ومبعث حزنه و حقده وكراهيته..وعندما يظهر هذا النوع من الشعور بالغضب الشديد ممزوجا بآلام كبيرة، يتبين بان هذا الانسان ـالضحية.


مايزال ممزق جدا في داخله !وهكذا تتبعثر وتتبدد طاقاته الكامنة وتضعف قدراته الذاتية ويصبح عالة على نفسه والمجتمع ايضا..
ان هذه الصور وتلك الذكريات لا تحتاج الا لشيئ يسير من التحريض حتى تظهر، لانها مغروسة، ومنقوشة في دفتر الصور ـالذكريات الكامن فى أعماق الضحية..ان
تلك الكراهية والحقد الدفينين تجعل الضحية غير قادر على بناء حياة سوية طبيعية،فرحة،بمشاعرسعيدة.فالذكريات المقيتة الجارحة
تطارده وتسب له باستمرار تلك الانواع من الانفعالات النفسية السلبية...الغضب..الكراهية..الحقد..الشعور بالحاجة إلى الإنتقام..الخ..!
في مثل هذه الحالات يكون العفو ـالتسامح صعبا..يقول علم النفس.


غالبا ما يكون شعور الغضب، الالم والكراهية قوة قاهرة لا يمكن السيطرة عليها ـوفقط عندما نستطيع ان ننزع شعور الغضب والكراهية من قلوبنا ونحد من مفعولها، نكون قد خطونا خطوات واسعة واساسية في طريق العفوـالتسامح.
ان مشكلة الضحية هي ليست فقط الالام الجسدية(اثار التعذيب)، وانما الالام النفسية والمعنوية ايضا..اذ ان اثار التعذيب الجسدي ربما تزول مع مرور الزمن، لكن العذاب النفسي يبقى كامناً في داخل الروح..


فهنا يكمن اساس المعضلة،ومفتاح حل الازمة.اذ المعادلة هي،جلاد ـضحيةـ.!
هنا ينبغي العمل الحقيقي وينبغي خلق نوع من التقارب،نوع من الثقة المتبادلة،والصعبة جداً بين القطبين!..
لأن الضحية يضع كافة المسؤولية عن آلامه وانفعالاته السلبية..الكراهية، الحقد،الرغبة بالانتقام.على عاتق الجلاد.
هناك مثل جلي، ما يزال ماثلاً في صدور الجمهرة العظمى من العراقيين بكل قومياتهم واديانهم وطوائفهم...
ففي صبيحة 8 شباط عام 1963 حدث انقلاب عسكري دموي راح ضحيته عشرات الآلاف من خيرة ابناء وبنات الشعب العراقي على اختلاف قومياتهم واديانهم ومذاهبهم. وفي مقدمتهم العراقي الوطني عبد الكريم قاسم. قد كانت مجزرة ادواتها الحقد والكراهية والثأر، تفوح من افواههم رائحة الذهب الاسود ودولارات اسيادهم..لقد قام الانقلابيون باعتقال وسجن وتوقيف الآلاف من البشر العزل، وتعذيبهم وفي حالات كثيرة حتى الموت، واجبار العديدين منهم على تقديم البرءات من أحزابهم ومبادئهم الخ....وعندما حدث انقلاب 17 تموز عام 1968، وجاءت نفس الزمرة مرة اخرى إلى الحكم، لم يعتذروامن الشعب العراقي وضحاياه الهائلة ابان احداث شباط 1963 المأسوية.بل وحتى انهم لم يفكروا بذلك.، وهذا يعني في مفهوم علم النفس، ان هؤلاء الضحايا لا يمكن ان يعفوا او يسامحوا الانقلابيين، فبالرغم من قيام ـ ما يسمى الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، في عام 1973، الا ان عدم الثقة والكراهية والغضب بقيت هي السائدة في العلاقات.ـ رغم المجاملات.الى ان تفككت هذه الجبهة، وعادوا الى التناحر الدموي المعروف..


كذلك..ذكريات والام ـحلبجة والأنفال والقبور الجماعية،،وووالخ.. ما تزال حتى الان في ذاكرة الضحايا واهاليهم وكل الخيرين من الناس.. فعلى المعنيين بتلك الأفعال والجرائم،ان يقدموا اعتذارهم واسفهم وندمهم امام الشعب العراقي وبشكل علني، لا لبس فيه مطلقا..وان يكشفوا عن مجمل افعاتهم واعمالهم الاجرامية، ويبدو استعدادهم لتحمل كل ما يلقيه القانون ومستحقات الضمير الإنسان على كاهلهم من عواقب،.هذه هي مقتضيات الحقيقة لمرة، وهذا هو الطريق الصحيح المؤدي الى ـالعفو التسامح.
هناك تجربة فريدة من نوعها في العالم..تجربة تعالج مشاكل المصالحة الوطنية بالطرق السلمية النادرة،إنها تجربة كبيرة خاضتها القوى السياسية ومجتمع افريقيا الجنوبية بكل شجاعة ووضوح..ولاهميتها سأوجز اهم اسسها وملامحها!


انطلقت التجربة من رسالة ـنيلسون مانديلا.
في عام 1995 والتي تم بموجبها تاسيس (لجنة الحقيقة والتآلف)، وكما هو معروف، فالسيد مانديلا، هو اول رئيس اسود لجمهورية افريقيا الجنوبية، حيث تم انتخابه في عام 1994 بعد استلامه السلطة من الحكومة العنصرية البيضاء بصورة سلمية ـديموقراطية.، في بلد كانفيه 4 ملايين من البشر بيض يحكمون 40 مليون من البشر السود بشكل لا انساني، وحشي ومغالي في القساوة، بحيث كان ال40 مليون انسان اسود يعيشون في عبودية جديدة،و انها بحق مستنقع العبودية النتن،وبعد أن تحرر جنوب أفرقيا وقامت دولته الوطنية الديمقراطية راح ذوو السوابق الاجرامية بحق الاف السود يتجولون هنا وهناك،.وطبيعي ان يكون الجو العام بين السود والبيض متسمم بالتوتر ومشحون بالعلاقات المتشنجة والخوف وعدم الثقة، خاصة في أوساط معظم البيض ممن أدركوا ذنبوهم وقلقوا من يوم الحساب، يوم الثأر والانتقام..على افعالهم الاجرامية طيلة عقود مضت. كان البلد يعيش في تلك الفترة الحرجة على شفى بركان هائج، وديناميت وقنابل موقوتة..


والسيد مانديلا يواجه تحديات كبيره وخطيرة، وعلى رأسها منع ذلك البركان من الأنفجار وكذلك الديناميت والقنابل الموقوتة من الأنفجار ايضا..اي منع اشتعال حرب اهلية..
ما العمل اذن؟..هل يدعو الى تشكيل محكمة دولية لمحاكمة مجرمي الحرب تماما مثل محكمة نيرنبيرغ ـالتي خصصت لمحاكمة مجرمي الحرب من النازيين الالمان..ام على شكل محكمة دولية على غرار محكمة لآهاي.هل هذا هو الحل؟.هل يدعوا لقيام مثل ذلك ولو لفترة مؤقتة يتم خلالها محاكمة الحالات الأكثر خطورة واجراماً؟. ويمنح الجماهير الغفيرة المتضررة نوعا من العدالة ونوعا من الطمأنينة في تحقيق ذلك..


كلا..فالسيد مانديلا قد قرر شيئا آخر. امر بتشكيل لجنة الحقيقة والتآلف ـوعين رئيس القسسة المشهور بانسانيته وعدالته السيد ادموند توتو رئيسا لها.كان على راس مهام هذه اللجنة.العمل على تآلف المواطنين السود مع المواطنين البيض، عن طريق مد جسور الثقة والعفو والتسامح..منطلقة من الحقيقة.كل من اقترف جريمة حرب، سيعفى عنه اذا ما تقدم باعتراف علني كامل جرائمه وكل أفعاله الشائنة السابقة وبكل وضوح ودقة وصدق، وامام الضحايا المتواجدين قبالتهم وجهاً لوجه في باحة واحدة،هذا الاعتراف العلني من قبل مرتكبي الانتهاكات وتقديمهم الندم والاعتذار وطلب الغفران،أتاح للضحايا المستمعين لهم أن يتأملوا ويفكروا ويجنحوا للتسامح رغم صعوبته ومضاضته. درس عظيم..يقدمه العقل الإنساني الزاخر بالوعي لا بالنزعات البدائية،وتجربة رائعة،قدمتها جنوب أفريقيا بكل نضج وتكامل..
فهل يتعلم اهل العراق منها؟،بل هو يطبقوها بإبداع أكبر ونضج أعمق؟ هذا ما نأمله.
ليعم السلام الاهلي الحقيقي ربوع وادي الرافدين.بعد طول احتراب وعذاب!!

ناشط في قضايا حقوق الإنسان
في ألمانيا
8.شباط.2010