من مفكرة سفير عربي في اليابان

الحداثة الصينية والنظام العالمي الجديد (1)

ناقش الكاتب البريطاني، مارتين جاكوس ، في كتابه، متى ستحكم الصين العالم؟ ضرورة فهم الثقافة الصينية لاستقراء دبلوماسيتها المستقبلية، بعد أن يتقدم اقتصادها على الاقتصاد الأمريكي مع منتصف هذا القرن، لتشارك في قيادة حداثة عالمية جديدة. وقد اعتمدت هذه الثقافة على أفكار فيلسوف الصين العظيم، كونفوشيوس، الذي عانى في القرن السادس قبل الميلاد، من سوء الحكم في بلاده، ومن الحروب بين ولاياتها. وتتلخص فلسفته في أن طبيعة البشر حميدة وتتقبل التهذيب، وبأن انضباطها غريزي، ويعتمد آداب سلوكها على مفاهيم العيب والخجل وفقدان ماء الوجه. وتؤكد على أهمية العائلة ومسئولية الأب في الرعاية المتناهية الكفاءة لخلق التناغم بين أفرادها، وربطها بطقوس احترام أرواح الأسلاف وتبجيل الدولة. كما اعتبر الاختلاط العائلي آلية تهذيب، يتعلم الأطفال من خلالها تقدير العائلة، ويدرك الكهول واجباتهم، ويتفهم الجميع بأن الفرد جزء ثانوي من المجتمع. كما دعت الكونفوشيوسية لخلق بيئة انضباط سياسي، وربطتها بأعلى معاير السلوك الأخلاقي، وبسلطة برغماتية لدولة ملتزمة بهرم متقن للفضيلة بين مسئوليها. وتعتبر الدولة مؤسسة توحد المجتمع وتصونه وتوفر رخاءه وتضمن خلوده، وهي منبع دائم للقيم والسلوك والانضباط، وبمسئوليات متأصلة في جذور ثقافتها، لتنتج حكومات فاعلة، توفر سلطة أمنية قوية تضمن السلام والانضباط وتقي من الفوضى، وبأية ثمن، لتخلق بيئة يساهم القيادات والمواطنون بإبداعاتهم وجهدهم لازدهار المجتمع وتقدمه.
لقد أرتفع الناتج المحلي الإجمالي الصيني في عام 1800 إلى أربعة أضعاف ما كان عليه في عام 1600، ليصل إلى 50% من الناتج الإجمالي العالمي، حينما كان الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي 2%. وتباطأ الاقتصاد الصيني بعد انتصار بريطانيا في حرب الأفيون الأولى. وقدر الناتج المحلي الإجمالي للصين في عام 1820 بحوالي 228.6 مليار دولار، ليرتفع قليلا في عام 1913 إلى 241.3 مليار دولار، ولينخفض في عام 1950 إلى 239.9 مليار دولار. ومع ذلك بقى الاقتصاد الصيني نشط واستمر الفلاحون في التأقلم والإبداع كما استطاع التجار المحافظة على نشاطاتهم التجارية، وبعد أن اختفت حيوية التجارة الصينية عن السطح، برزت بشكل هائل بعد عام 1987، والتي علق البروفيسور جاكوس عليها بقوله: quot;فبدل أن يكون الاقتصاد العالمي أوروبيا في عام 1800، كانت القوة الاقتصادية شراكة بين آسيا وأوروبا والولايات المتحدة، وبقيادة الصين والهند. وقد بدأ الاقتصاد العالمي يتمحور من جديد حول تعدد القطبية، ويجب أن نفترض بأن القرنين الماضيين هو شذوذ مؤقت في تاريخ البشرية حيث تركز هذا الاقتصاد في يد قلة في أوروبا والولايات المتحدة، والذي أدى لنمو الاقتصاد الغربي ولبطأ الاقتصاد في بقية العالم. ومع أن أوروبا جمعت مع بداية عام 1800 أوصولها الثقافية كالقانون والحكومات البرلمانية، والتي لم تكن في الحقيقة مفتاح تنميتها، فليس هناك سبب لاعتقاد بان الثقافات الأخرى وبمميزاتها المتنوعة لا تستطيع أن تحقق حداثتها.quot; وقد أكد ذلك أيضا كريستوفر بايلي، بقوله: quot;لو ارتبط التميز الأوروبي عن الصين في التنمية قبل عام 1800 باستخدام الفحم الحجري من مستعمراتها لإنتاج الطاقة، ولغزو الأراضي الأمريكية الشاسعة، فقد أصبح الوقت مناسبا للإلقاء الكثير من الأمتعة الثقافية عن الفوقية الأوروبية في البحر.quot;
وقد بدأ الإصلاح الصيني في عام 1978، بإنشاء عدة مناطق اقتصادية خاصة، وأجرت الدولة الأراضي على الفلاحين، وشجعتهم على زرع منتجاتهم الخاصة، ليبدأ الإصلاح خطوة وبخطوة وعلى نار هادئة وبطريقة تجريبية، وبعد نجاحه في محافظة ما، نشر تدريجيا في المحافظات الأخرى، ونجحت هذه البرغماتية المتواضعة، التي عبر عنها الرئيس دنج بقوله: quot;أبحث عن الصدق من حقيقة الممارسة، واعبر النهر بتحسس حصياته.quot; كما ارتبط الإصلاح بذهنية جديدة، وبتغيرات هائلة في قيادات الحزب والحكومة، والذي وصفهم الرئيس دنج: quot;نحتاج لعدد كبير من شاقي الطرق الذين يتجرءون على التفكير، ويكتشفون طرق أخرى ويبدعون أفكار متجددة.quot; وعلقت صحيفة الشعب الصينية على الخطط الجديدة بالقول: quot;مشروع هندسي لنظام اجتماعي عملاق، يشمل إصلاح العلاقة بين الحكومة والحزب، السلطة والقضاء، وتنظيم مؤسساتي وخاص بين منظمات مركزية ومحلية وشعبية، تتعلق بمئات الملايين، مهمة شاقة وطويلة.quot;
وقد أدت الإصلاحات لارتفاع نسب النمو الاقتصادي السنوي من 4% في عام 1978 إلى 9.5% في عام 1992، وانتقلت تدريجيا من الريف إلى المدن، ليتطور الاقتصاد الصناعي، بتزايد الاستثمارات الأجنبية، ولتنضم الصين لمنظمة التجارة العالمية في عام 2001. فقد حققت الصين منذ عام 1978 أكثر من خمسمائة مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتي نافست في عام 2003 الاستثمارات الأجنبية المباشرة الأمريكية، بفضل رخص العمالة لتصنيع وتصدير منتجات منافسة للخارج، والتي مثلت 60% من إجمالي صادراتها و 85% من صادراتها التكنولوجية المتقدمة. وقدر الناتج المحلي الإجمالي للدول المتقدمة (الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان وكندا واستراليا ونيوزلندا) في عام 1973 ب 58.7% من إجمالي الناتج العالمي، بينما لم يتعدى سكانها 18.4% من سكان العالم، ولينخفض قليلا في عام 2001 إلى 52% مع انخفاض السكان إلى 14%. وارتفع هذا الناتج في دول آسيا (بدون اليابان) في الفترة من عام 1973 وحتى عام 2001 من 16.4% إلى 30.9%، وبزيادة سكانها من 54.6% إلى 57.4%. ويعتقد الكاتب بأن هذه الأرقام ستتغير بشكل مثير خلال العقود القليلة القادمة، لتصبح الصين القوة الاقتصادية الأولى في عام 2027، وليتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي الأربعين تريليون دولار، والذي سيستمر في الصعود لأكثر من السبعين تريليون دولار في عام 2050، وسيتساوى الناتج المحلي الأمريكي والهندي ليصل لحوالي الأربعين تريليون. وسيرتفع النتاج المحلي الإجمالي للبرازيل وروسيا والهند والصين في عام 2032، ليتجاوز الدول الغنية السبع. كما سيرتفع في عام 2050 مجموع الإنتاج المحلي الإجمالي لأحد عشرة دولة نامية (بنجلادش ومصر واندونيسيا وإيران وكوريا ومكسيكو ونيجريا والباكستان والفلبين وتركيا والفيتنام)، لثلثي الناتج المحلي الإجمالي للسبع الدول الغنية.
ويعلق الكاتب على التغيرات القادمة بالقول: quot;فبمنتصف هذا القرن حينما ينخفض مجموع الناتج المحلي الإجمالي لدول الغرب عن 50% من الناتج المحلي العالمي ستكون حقبة الغرب قد انتهت. فصعود الصين والهند والبرازيل وكوريا وتيوان والدول العالم الثالث الأخرى سيؤدي لتغير كبير في ميزان القوى الاقتصادي والتي ستترافق بتغيرات هائلة. فسيغير هذا الازدهار ثقة هذه الدول بنفسها وبمجتمعاتها، والذي سيساعدها على إبراز قيمها السياسية والثقافية. وبدل أن ترفض تقاليد وثقافة مجتمعاتها، والتي كانت تخجل منها إمام تقاليد الغرب، ستصبح جزء من فخر حداثتها الوطنية. وفي المستقبل بدل أن يكون هناك سيطرة حداثة غربية وحيدة، ستكون الحداثة متعددة ومتميزة، كما سيتغير طريق المرور الحضاري من الغرب إلى الآخرين، ليصبح طريق متعدد الاتجاهات، لتتناقل الشعوب من ثقافة بعضها البعض ولتتمازج في حداثة عالمية متناغمة ومتنوعة الأطياف. فلن يعد يحتكر الغرب الحداثة، كما لن توصف تاريخ وثقافة وقيم مجتمعات الشرق بالتخلف والفشل، بل ستتميز بإحساس جديد من الشرعية، وصعود مستمر بالثقة بالنفس. وستتآكل تدريجيا عقدة الكبرياء الغربية بأن قيمهم وعقائدهم ومؤسساتهم وحكوماتهم وديمقراطيتهم وثقافتهم متفوقة على الآخرين، بتصاعد حداثة عالمية متعددة الأطياف ومتميزة المفاهيم، ولن تترافق الحداثة والتطور والتحضر بكلمة الغرب، وستكون حاملة شعلة هذا التغير الصين، وليس بسبب وسع أرضيها وكثرة شعبها وتزايد اقتصادها، بل بسبب طبيعة حضارتها ومنظورها.quot;
وينهي البروفيسور كتابه بالقول: quot;يعتقد الغرب بأن الديمقراطية مثاليات مطلقة، يجب تطبيقها بشكلها الغربي في كل مكان، بدون اعتبار للتاريخ والثقافة، والحقيقة بأن عدم توفر الظروف المناسبة للديمقراطية الغربية قد يؤدي تطبيقها لنتائج كارثية. ويجب ألا تعتبر هذه الديمقراطية المعيار الوحيد للحداثة، بل هناك أولويات أهم في الدول النامية بظروفها المختلفة ومستوى التاريخي لتطورها، كمعاير الكفاءة الحكومية وإنتاجيتها، والتي تنعكس في التنمية الاقتصادية والتناغم العرقي وخفض الفساد والحفاظ على الانضباط والاستقرار. كما تبين دراسة التاريخ الأوربي بأن القليل من دول الغرب كانت ديمقراطية حينما بدأت ثورتها التنموية والصناعية، فالثورة الصناعية البريطانية التي تحققت في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن العشرين، لم يسمح القانون حتى في عام 1850 بحق التصويت إلا إلى 20% من الرجال، ولم تكتمل حقوق التصويت إلا في عام 1880، وتأخرت المرأة في الحصول على هذا الحق حتى عام 1918، أي بعد أكثر من 130 سنة من الثورة الصناعية، كما كانت معظم دول أوروبا في فترة ثورتها الصناعية دول ملكية مستبدة أو ملكية دستورية.quot; والسؤال لعزيزي القارئ: هل حان الوقت للعرب لكي يتخلصوا من الاستعمار الذهني، ليفتخروا بتاريخهم وحضارتهم وثقافتهم وقيمهم، ويتفرغوا لتطوير حداثتهم، بالاستفادة من ثقافة السلم والبرغماتية الواقعية وكفاءة الأداء والقانون والتعليم واقتصاد السوق الحرة والعلوم والتكنولوجيا والحكومات القوية الفاعلة؟

سفير مملكة البحرين في اليابان