لقد كان العرب ومازالوا عاطفيين في حكمهم على الأشياء، لا يلبثون أن ينساقون وراء رياح العاطفة دون روية أو تدرج أو تبصر، مما يجعلهم دوما تائهين في منعرجات شائكة غير مدروسة. وأوضح مثال على ذلك ما حدث في شهر فبراير 1958م حيث تمت الوحدة بين مصر الناصرية وسوريا (وحدة ما يغلبها غلاب!). والتي كانت أكبر زخة عاطفية غمرت كل بيت في العالم العربي في حينه، وتفجرت في عيون الشباب بينابيع من العزة والمنعة والتلاحم والأمل في تحقق الحلم الوردي للوحدة العربية في عالم لا يعترف إلا بالكتل الكبيرة ولا يتعامل إلا مع الأقوياء المتحدين كالبنيان المرصوص. ولكن ما أعقب ذلك بعد النكسة 1967م من تفسخ للوحدة لم يكن إلا أمرا طبيعيا لعفوية ما حدث، ولهشاشته، ولإنعدام الأسس الصلبة فيه.

ورغم أن تلك الوحدة لم تكن الأولى حيث تم قبلها اتحاد بين (المملكة العراقية والمملكة الأردنية) في بداية عام 1958م، وتبعتها (الفدرالية العربية للعراق والأردن) والتي انتهت بالفشل. وكذلك (ميثاق طرابلس الوحدوي) في ديسمبر 1969م بين (مصر والسودان وليبيا). وإتحاد الجمهوريات العربية بين (سوريا ومصر وليبيا) في إبريل 1971م. وتبعتها (الوحدة الاندماجية بين ليبيا و مصر) سنة 1972، والبيان الوحدوي بين (ليبيا و الجزائر) ديسمبر1975م، و(الوحدة الاندماجية بين ليبيا و سوريا) 1982م. و الاتحاد بين (الأردن و فلسطين) ضمن المملكة الأردنية الهاشمية و الذي إنفرط بقرار فك الإرتباط. والإتحاد العربي الإفريقي في أغسطس 1984م بين (ليبيا والمغرب) وعرف ببيان (وجدة) الوحدوي. وكانت كلها محاولات تبو بالفشل وتعطي مردودا عكسيا على علاقات الشعوب. وأخيرا ما تم بين (اليمن الشمالي واليمن الجنوبي) سنة 1990م والذي لا زال يعاني كثيرا من التصدعات.

وحقيقة أن الحلم في كل صحوة يتحول إلى كابوس، وأنه ينتهي مثلما ابتداء تبعا لعدة عوامل لم يمكن تلافيها ومنها:

تحكيم العاطفة والشعارات والوقتية فيما يحدث،وعدم وجود مشروع سياسي مدروس للوحدة، وعدم التدرج والأخذ بالأسباب.
السلطة المطلقة تكون دوما مطلب أول من أحد أقطاب الجهات المتحدة مما يؤدي إلى تهميش الجهة الأخرى، وتبعيتها، وتحويل حلمها إلى كابوس.
دوما يكون التركيز على الوحدة السياسية (وحدة الحكم) بينما تُهمل جميع الجوانب الحيوية التي من أجلها تقوم الوحدة، كالجوانب البشرية و الإجتماعية والإدارية والإنمائية والإقتصادية. والمفروض أن الوحدة تنتج وئاماً ومحبة ونهوضاً وتوافقاً ومواطنة متساوية قبل تكامل الوجه السياسي لها.

معظم الدول التي تحاول الدخول في وحدة لا تمتلك الاستقرار السياسي داخليا، فيوجد بداخلها معارضين و مناوئين، وإقليميات، وعنصريات وأقليات مهملة تجد فرصتها بالتحرك أثناء إنشغال الدولة في شئون الوحدة الخارجية.


الوحدة تحتاج لديمقراطية حقيقية، أو على أقل تقدير إلى إستقلالية داخلية مثلما حدث في (إتحاد الأمارات العربية) حيث تنعم كل أمارة بحكمها وإقتصادها ومجتمعها ونظمها التي تتبارى بالوفاء بالإلتزام بحقوق المواطن.

عليه فإن مشاريع الوحدة والإتحاد العربي ستكون غائبة لفترة طويلة، ولا يمكن الحديث عنها طالما لا زالت الشعوب العربية تعاني من الجهل الذي يعصف بالمجتمعات ويشجع على الإرهاب، ومن الفقر والمرض. وما دام أبناء الأمة العربية يشكلون أكبر جاليات مغتربة في شتى أصقاع العالم هروبا من الظلم والقهر وضياع القيمة في بلدانهم. وما دام أن السياسة لا تعترف بالديمقراطية ولا تعترف بدور الشعوب في تحديد المصير. وما دام بيننا كثير من الأقليات اللذين لا يحصلون على حقوق المواطنة. ومادامت العنصرية الكريهة تفتك بأبناء المجتمع الصغير وتشرذمه. ومادامت المرأة العربية لا زالت تطالب بحقوق حصلت عليها نساء العالم أجمع منذ عشرات السنين. وما دام الطفل العربي إمعة في تعليمه وتكوينه.

كلنا بقلوبنا نتمنى الوحدة. ولكنا بعقولنا نقول. أرجوكم إرحمونا من الكوابيس.