تشهد عواصم وحواضر عربية بصورة متواترة مؤتمرات وملتقيات إعلامية، منذ نحو عقد ونصف العقد، حتى باتت هذه المناسبات تتمتع بصفة الدورية والانتظام. وقد نما الاهتمام بالظاهرة الإعلامية، بالتزامن مع ما عرف بثورة الاتصالات والانفجار المعلوماتي وظهور الإعلام الرقمي، مطيحاً بالإعلام التقليدي حبيس الورق ورهين محليته وأسير القيود على تدفق المعلومات وحرية التعبير.
من المفارقات أن تزايد الاهتمام بالنشاط الإعلامي، قد أتى مع شكوى متصاعدة من ضعف المقروءية للمطبوعات في العالم العربي، وخاصة في صفوف الأجيال الشابة، وهذه الشكوى لا تشمل حجم القراءة على المواقع الالكترونية للمطبوعات الورقية أو غير الورقية،علماً بأنه يصعب رصد حالة القراءة في هذه المواقع وذلك لصعوبة تمييزها عن مجرد التصفح والزيارة. ومع الأخذ في الاعتبار أن النشاط الاعلامي يشمل المنابر المرئية والمسموعة، وهذه تتميز بإقبال واسع عليها.
على أن المفارقة لا تتوقف هنا. فأغلبية الملتقيات الإعلامية تنعقد بمشاركة أهل الإعلام أنفسهم وفي كثير من الحالات تقتصر عليهم، ودَعْ عنك تكرار الأسماء والوجوه هنا وهناك. فبما أن الإعلام صناعة متكاملة، فإنه من الغريب أن طرفاً واحداً يكاد يتصدر المشهد دون سواه من الأطراف. إذ قلما يحضر فاعلون سياسيون، وإذا حضر هؤلاء فإن حضورهم يتخذ إما طابعاً شرفياً بروتوكولياً، أو يتم غض النظر عن تجارب غنية لهؤلاء (وزراء إعلام سابقون مثلاُ) في التعامل مع الإعلام وفي نظرتهم اليه، وبما يضيء على العلاقة الفعلية بين الإعلام والسلطات، لدى أنظمة سياسية متباينة وفي مراحل زمنية بعينها.
ومع تفحص الواقع الإعلامي العربي ماضياً وحاضراً، فقلما أسهم الإعلام في تصعيد هذا الطرف السياسي الى السلطة، أو سلب حظوظ ذلك الفريق من الوصول اليها. وبدلاً من أن يشارك سياسيون في قراءة هذه الحالة، ينفرد إعلاميون أو خبراء إعلام بالنظر الى علاقة الإعلام بالسلطات، كما دأبت على ذلك غالبية الملتقيات الإعلامية، حيث تتردد المقاربات نفسها وحتى الكليشيهات ذاتها حول ازدهار هذه الصناعة وحرية التعبير والحق في المعلومات وتعدد الوسائط وشهداء الصحافة والرواد الإعلاميين وسوى ذلك، دون التقدم الى قراءة تاريخية كالإضاءة على أداء الصحافة في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ومقارنته بالوضع الراهن.
وتمتد المفارقات الى غياب قانونيين باستثناء حالات نادرة مثل مبادرة المؤتمر الإعلامي الأول الذي نظمته نقابة الصحفيين في ابريل الماضي، وذلك عن نشاط محكوم بقوانين وتشريعات وتدابير إدارية. فتضيع فرصة المقارنة بين قوانين عربية متعلقة بالمطبوعات، علاوة على قوانين أخرى ذات صلة بمهنة الإعلام، كما يحرم الجمهور من الوقوف على أوجه التقدم أو التراجع في البيئات القانونية هنا وهناك، وذلك استناداً لمعايير دولية. وما دام الأمر يتعلق بالجمهور، فإنه قلما يجد طريقاً له الى مثل هذه المناسبات التي تنعقد وراء أبواب مغلقة ومحصورة بالمشاركين، وبصفوة من المدعوين الذين يقتصر حضورهم على حفل الافتتاح.
القارىء أو المشاهد أو المتابع لا صوت ولا تمثيل له في هذه المنتديات، فيما الحديث يدور في جانب كبير منه على المنبر، عن الرأي العام والجمهور ومدى تفاعلهما مع الإعلام..ومع صعوبة quot;لوجستيةquot; قد تنشأ في فتح هذه المناسبات أمام الجمهور العريض، فإن الإبداع التنظيمي لا يبلغ درجة دعوة فئات من طلبة الجامعات مثلاُ، أو دعوة ممثلي قطاعات مهنية معينة وبالتعاقب.حتى أن هذه المنتديات لا تشهد حضور ممثلين لقطاع المعلنين، علماً بأن هؤلاء طرف رئيس في صناعة الإعلام.. فلا إعلام مستقلاً دون إعلان. وهو ما يحمل هذه الفئة على عقد منتديات خاصة بها وبهذه المهنة.
ليست الملتقيات الإعلامية مناسبة quot;نقابيةquot; حتى تقتصر المشاركة فيها على أهل المهنة. فالمجتمع برمته شريك في هذه المهنة، التي ينعكس أداؤها بصورة مباشرة على الحياة العامة بأسرها. كما أن الأبعاد السياسية والاقتصادية والقانونية والثقافية والاجتماعية، الغنية عن البيان، لهذه الصناعة، تجعلها أكبر وأشمل من أن تكون مجال تفكير وتدبير أهل المهنة، دون سواهم من الشركاء الضمنيين أو الفعليين، فضلاً عن quot;المستهلكينquot; وهؤلاء هم علة وجود هذه الصناعة وهم من يمدونها بأسباب الحياة والبقاء.
وهكذا مع اقتصار هذه المناسبات على أهلها، فإن مردودها يظل محدوداً وحصيلتها آنية سرعان ما تتبدد عقب انفضاض المناسبة، إذ تكاد تتحول الى quot;إخوانياتquot; ومحافل تجمع زملاء وأصدقاء وأرباب عمل، يتكرر حضور معظمهم هنا وهناك، ويتوقعون أن يسمعوا من بعضهم بعضاً أفكاراً مألوفة ومعالجات quot;متفق عليهاquot;، ولا يخيب توقعهم هذا. وتكاد أصداء هذه المناسبات تتردد في أوساط ضيقة من الجسم الإعلامي، أما أثرها خارج هذا النطاق فيصعب تلمسه.
وفي ضوء ما تقدم فإن هناك حاجة لإعادة النظر في مقاصد هذه الملتقيات وآليات انعقادها وعناوين عملها، بعد أن أدت الأغراض الأولى لها واستوفت مراميها الأساسية في التعريف بالظاهرة الإعلامية المتنامية، وإلقاء الضوء الكاشف عليها، وإن اعترى المسألة حال من المديح الذاتي من أهل المهنة لصنيعهم هم.
هناك مستجدات متسارعة مع نشوء إعلام موازٍ يتمثل في ظاهرة المدونات، والخدمات الإخبارية للمواقع الالكترونية وللهاتف المحمول، والملتقيات المليونية المفتوحة مثل ملتقى فيس بوك وتويتر وسواهما، والصعوبات المتزايدة التي يواجهها الإعلام quot;الكلاسيكيquot; وبالذات بما يتعلق بحدود استقلاليته، مع ضمور الإعلانات وضيق رقعة القراءة.. وهو أمر قد يدفع حتى لإعادة تعريف الإعلام والنظر مجدداً في هويته.