قالت المعلمة الروسية quot;ياله من إنسان ذكيquot; وكانت تقصد الزعيم الشيوعي ليونيد لينين.. ثم نظرت بتعجب للطلبة العرب الذين كانت تلقي عليهم درساً من دروس اللغة الروسية وكأنها كانت تريد ابلاغهم رسالة ما بدون كلمات.

فكان النص يدور حول الزعيم لينين وكيف أنه قال لأبوية عندما بلغ السادسة عشرة من عمره quot;أنه لم يعد مؤمناً بعد اليومquot;. وكان ذلك سبباً كافياً لتصفه المعلمة بالشجاعة والذكاء.

لم يروق قول لينين ولا وصف المعلمة الطلبة العرب الحضور والذين اعتبروه إهانه متعمدة لهم دون غيرهم وذلك لأن الآخرين كانوا من الطلبة الفيتناميين الذين قدموا للأتحاد السوفيتي للحصول على الدكتوراة في علم الشيوعية وكانوا جميعهم ملاحدة.

متسلحاً بالغيرة العربية قاطعها أحد الطلبة العرب سائلاً هل تقصدين أن عدم الأيمان بالله برهان على الذكاء فأجابت بسرعة البرق وكأنها كانت في انتظار السؤال وحضرت الإجابة مسبقاً.. نعم دليل على الذكاء الفطري ومقياس لزيادة الكم والكيف الثقافي للإنسان وأضافت.. كلما زادت مستويات المعرفة لدى الإنسان إزداد وعيه وإدراكه لحقيقة الوجود بعيداً عن الغيبيات.. وغير المرئيات.. وغير المدركات.

هنا تدخل طالب مصري وقد تملكه الغضب وأعلن مداخلته قائلاً.. سيدتي.. ألا تعلمين أن هذا التليفون الذي على الطاولة هو من أختراع جراهام بل المسيحي الكاثوليكي، وهذا الضوء الذي ينير الغرفة التي تجلسين فيها هو من اختراع إديسون وكان أيضاً مسيحياً مؤمناً، ألم تقرأين كيف كان العالم العظيم نيوتن ينظر في خشوع إلى الأرض أثناء السير في الطريق وعندما كان يسأله تلاميذه وأصدقاءه كان يجيبهم quot;تقديراً وإجلالاً لخالق الطبيعة الأعظمquot;.. ألم تسمعين عن علماء مسلمين مثل الخوارزمي، وجابر بن حيان، وابن سينا وابو الحسن بن العطار وغيرهم.. سيدتي لا علاقة للإيمان بالذكاء والغباء فقاطعته على الفور معلنة انتهاء الحوار والبدء في استكمال الدرس.

في الحقيقة كان من غير الممكن نقد أفكار هذه المعلمة في ذاك الوقت لأن الثقافة التي كانت سائدة في ذلك الزمان كانت تخلط بين مفاهيم الإيمان، الدين، ورجال الدين. لم تفرق النظرية اللينينية الماركسية بين المفاهيم الثلاثة فشنت الحرب الشعواء عليهم. ويبدو أن القهر الذي مارسته المؤسسة الدينية على الناس، وانتشار الخرافة، والتفاسير الدينية الخاطئة جعل هذه المعلمة لا تدرك أن الذكاء أو الغباء مرتبط بمدى إستسلام وخضوع الإنسان لهيمنة السلطة الدينية، وتنازله عن سلطة العقل لصالح النص، وليس له أية علاقة بالإيمان أو عدم الأيمان.

ولذلك كان القضاء على المؤسسة الدينية في ربوع روسيا القيصرية وتحرير العقول من سلطان الخرافات من الأسباب القوية التي من أجلها قامت الثورة الروسية بقيادة الزعيم الشيوعي لينين في العام 1917، بالإضافة إلى الأحوال الأقتصادية والأجتماعية المتردية. فكان لينين يخطط أيضاً للأستحواذ على الأموال الضخمة التي تنفقها السلطة الدينية في بناء دور العبادة والصرف على رجال الدين، ليمول بها المشروعات الأقتصادية التي يحتاجها العمال والفلاحين المعدمين.

بيد أن لينين ورفاقه عندما ارادوا التخلص من السلطة الدينية تخلصوا أيضا من الأيمان والدين أعتقاداً منهم أن السلطة الدينية تصبح بلا جدوى إذا ضعف الجانب الإيماني لدى أفراد الشعب، وإذا أستبدلت النصوص الدينية بالأفكار الماركسية اللينينية. واعتقد أن هذا كان الخطأ وهذه كانت الخطيئة التي وقع فيها لينين ورفاقه.

فلا يمكن لأية قوة على الأرض أن تنزع قهراً الإيمان أوالأعتقاد من الإنسان كما أنه لا توجد أي قوى مهما كانت تستطيع فرض الإيمان أو الأعتقاد عقلياً على الإنسان. فالإيمان أو عدمه مرتبط بعقل الإنسان الظاهر والباطن بروابط سرية لايستطيع الإنسان ذاته في معظم الأحيان أن يفصح عنها لنفسه أو لغيره.

أعتقد أن المنطقة العربية لم تتعلم الدرس من خبرات الأمم السابقة بسبب روح الأستعلاء التي سيطرت عليها حتى وصلت إلى حالة لا تحسد عليها من خلط للمفاهيم بطريقة أربكت العقول وارهقت النفوس. حيث تم اختزال قيمة الأيمان بالله إلى بعض العبادات والطقوس الشكلية من ملبس ومأكل. وضاعت بل وتاهت المعاني النبيلة للنصوص الدينية وسط طوفان الفتاوي التي لاتنتهي، وتعاظمت السلطة الدينية كماً وكيفاً حتى كادت تسرق سلطة الإنسان الذاتية لتجعله خادماً مطيعاً لها.

فالمناخ الديني الحالي زائف ضعفت فيه طاقات الإيمان العقلي الأصيل وتغلبت عليها طاقات الإيمان الشكلي البغيض.. مناخ فقد فيه الإنسان سلامه وطمأنينته نتيجة طوفان الفتاوى والتفاسير الخاطئة للنصوص الدينية فخضع العقل للنص وأصبح له عبداً.. مناخ وقع الإنسان فيه رهينة للمؤسسة الدينية وسلطانها المرعب.

فهل حان الوقت لتحرير الإنسان العربي من هيمنة المؤسسة الدينية والفتاوى والتفاسير الدينية التي لا توافق إنسان القرن الحالي؟ نعم لقد حان الوقت لإصلاح المناخ الديني ليعود إلى الأصل والفطرة؟ فيستمتع الإنسان العربي بمزايا وخيرات المناخ الديني الأصيل والحقيقي ذو البعد الواحد والوحيد ألا وهو حرية المعتقد، وإن شئت حرية الضمير. الأمر يحتاج إلى شجاعة.

[email protected]