لا مراء من أن الأزمة الحالية التي يعاني منها العراق بسبب تأخر تشكيل الحكومة، لها أبعاد و أسباب عديدة، و قد سبق و أن ذُكِرَ، في الكثير من القنوات الإعلامية العراقية و في تحاليل المراقبين و المحللين، جملة من هذه الأبعاد و الأسباب للتعبير عن مدى تعقيد الأزمة و صعوبة تجاوزها، خاصة في ظل غياب أرضية مشتركة حقيقية حتى الآن للحوار الناجع بين الأطراف المتنازعة و الولوج في التفاوض و نقاش القضايا من حيث التفكير بحاضر و مستقبل البلد بدلاً من التخبط في هواجس طائفية و مطامح جهوية أو سياسية و حزبية.


أنا أود في هذه السطور أن أشير الى بعد آخر للأزمة و الذي ربما لم نتطرق اليه كما هو مطلوب لتعرية جزء آخر من واجهة القضية العراقية التي تتمثل أبداً في إشكالية بناء البلد و نظامه السياسي مجدداً. هذا البعد للأزمة يكمن، بجملة، في إنعدام المهنية في إدارة المناصب و المسؤوليات الكبيرة التي تُملى على المسؤولين في البلد، لاسيما مسؤولية و منصب رئاسة الوزراء. و قد يفهم البعض مقاربتنا هذه بالخطأ إذا ما تلقى المقاربة و كأنها تعني التقليل من شأن و أهلية رؤساء الوزراء من حيث المهنية، أو إذا ما ربط الموضوع فقط بطغيان الطائفية لتفسير الحالة و مشكلة المهنية في إدارة الأمور، و الحق أننا لانعني هنا بإنعدام المهنية لا هذا و لا ذاك و لا نقول أن السادة أياد علاوي و أبراهيم الجعفري و نوري المالكي كانوا يفتقرون الى أهلية المهنة التي هي في النهاية و في خطوطها العريضة ليست سوى توظيف المنصب و المسؤولية لخدمة الدولة بناءاً على القوانين و الضوابط المعنية التي تضعها و تمليها بنود دستور البلاد على الساسة و الإداريين. ما نعنيه هنا بالضبط هو أن المهنية في إدارة البلاد بحاجة الى إرادة التجسيد و أرادة التثبيت و ليس الوعي بها فقط أو تدوين طرق التعامل معها في مدونات و سجلات و قوائم.


بمعنى آخر، أن مشكلة المهنية في المناصب هي أساساً مشكلة الإرادة و مأزق التطبيق، فالأمر يتجاوز دوماً مسألة الوعي و ثقافة أدارة الأمور، لاسيما إذا ما عَلمنا أن جميع وزرائنا السابقيين و الحاليين و خاصة رؤساء وزرائنا يحملون شهادات عليا تؤهل الكثير منهم لتسلم المناصب، ولكن الإشكالية في تقاطع المهنية عند التطبيق مع النوايا السياسية و الطائفية للفاعلين الإجتماعيين في هذه المناصب.


أن المشكلة الحقيقية في العراق هي أن كل من يتبؤ منصب سيادي يتعرض لا محالة، من قريب أو بعيد، لضغوطات حزبية أو طائفية و قومية للإلتزام بما يتطلع اليه الحزب أو الطائفة أو القومية و ليس لما تطمح اليه أبناء البلد و ما تستوجبها مصالح البلاد، من هنا تقع المهنية دوماً في حيرة و مأزق التطبيق و إرادة التجسيد بحيث تكون الأمور معها دوماً كالتالي: كلما تم العمل بها زادت الهوة بين المسؤول و بين حزبه أو طائفته أو من يقف وراء تنصيبه في المنصب، و كلما أبتعد المسؤول عن تطبيق المهنية لصالح الحزب و مصالحه أو مرامي الطائفة و مآربها زاد تأييد فئته و جماعته الخاصة لها ولكن ذلك طبعاً!على حساب مهنته و مسؤوليته و على حساب الشعب و الوطن أيضاً.


و إذا أردنا اليوم أن نفسر أسباب عدم قبول قائمة العراقية بالمالكي أو المالكي بالعراقية و علاوي في منصب رئاسة الوزراء أو تفسير حتى الصراع الدائر حالياً داخل قائمة الإئتلاف الوطني لتحديد مرشح لها لمنصب رئيس الوزراء، فيمكن تفسيره بخشية الأطراف من عدم تطبيق المهنية أي إنعدامها عملياً في تجربة السابقيين و ترجيحهم للمصالح الحزبية و الطائفية، و هذا يعني في النهاية و عموماً غياب تجربة موفقة في إدارة هذا المنصب تزيل قلق الأطراف المتنازعة من حكم طرف منهم دون الآخر و دون الحاجة الى هذا الكم الهائل من الصراعات و السجالات و المساعي لإبعاد بعضهم البعض من تسلم مسؤوليات الدولة الكبرى و السيادية. و لا غرابة هنا أن يدعوا ممثل المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني في كربلاء الشيخ عبدالمهدي الكربلائي إلى مراعاة المعايير المهنية والوطنية في تشكيل الحكومة المقبلة والابتعاد من المحاصصات الضيقة (الحزبية والفئوية والطائفية)، فهذه الإشكالية هى الأخرى من الإشكاليات المستعصية على الحل طالما أرتبط الأمر بغياب ثقافة ديمقراطية تُحيي المسؤولية تجاه الوطن و تعيد القيمة الى المواطن.


* رئيس تحرير مجلة ( والابريس ) كُردستان العراق