أسئلة كثيرة تتبادر إلى الذهن عند استعراض الحالة الداخلية المقلقة لأغلب الدول العربية، والتي تجد فيها أن الشعوب تعاني من خلاف دائم مع حكوماتها، وأن العقول الشابة في محاولات دائبة للبحث عن حلول منطقية لمشاكل شعوبها الدائمة!. فهل يا ترى أن الشعوب العربية أكثر تطلبا من شعوب كوكبنا الأرضي حتى تكون مجالا خصبا لهذه الصور المقيتة من القمع والقهر والظلم والفقر؟. أم أن تركيبتها المجتمعية والفكرية متبلبلة معقدة فلا يمكن بالتالي إرضائها إلا عن طريق القهر والصهر؟. مع العلم بأن سماء مطالب شعوبنا العربية متواضعة لا تعدو كونها أساسيات ضرورية لحياة البشر، وليست من الكماليات، التي يمكن التنازل عنها طوعا.

وباستعراض طلبات شعوبنا البسيطة لن نجد فيها طلبات تعجيزية أو متعجرفة أو مستحيلة. إلا إذا اعتبرنا أن الستر والكرامة والأمن وسد الرمق والحق في التعليم وفي التداوي وفي حرية المعتقد والفكر من المستحيلات، بل قل من المنكرات التي يصعب على الحكومات بكل معطياتها تأمينها.

فمعظم الحكومات في عالمنا العربي تعتبر تلك المتطلبات متعجرفة مبالغ فيها من قبل الشعوب، (التي لا يعجبها العجب!). بل وأن تلك الحكومات تضع شعوبها ضمن دائرة المغضوب عليهم (لجرأتهم!)، وامطالباتهم الوقحة المستمرة بتلك المتطلبات الحياتية الأساسية!. وتعمد إلى التخوين في نوايا الشعوب، وإرهابها، والضرب على حركاتها مهما كانت سلمية بيد من حديد وبقوانين طاغية لا تعرف القانون.

ولنعد للحكاية منذ بداية نشأة الدول، فالدول لم تكن في الأساس موجودة كنظام معيشي، وكانت جماعات البشر تختار في قراها أو في فيافيها أحد الكبار المقتدرين عقليا وماديا ونفسيا، وينصبونه كبيرا عليهم لقدرته على أتخاذ القرار المناسب في حينه، وحمايتهم من الشر إذا حاك بهم، ومن الخوف إذا زاد عليهم، ومن الفقر إذا سكن بينهم. وكانوا يختارونه قادرا من جميع النواحي، بحيث يكون معهم في جميع حوائجهم وأزماتهم.

من هنا كانت اللحمة تحدث بين الحاكم والمحكوم بتوازي وتساوي خطوط المصير، وبقدرته على تناسي ذاته أمام حوائجهم. وفي حالة إخلاله بما هو مطلوب منه، فإن الأمر يحال إلى شخص غيره يكون أقدر على أداء المهمة.


وتطورت الأمور واندمجت المجتمعات بعد ذلك فيما يسمى بالدول، وأصبح لكل شعب متعدد الأعراق دولة وحاكم وحكومة، وكان من المفترض ومن الطبيعي أن تقوم الحكومة بما كان يقوم به كبير القرية أو القبيلة من مسؤولية أدبية ومادية ونفسية ناحية من يحكمهم.
ولكن ما نراه في حالة أغلب الدول العربية الحالية لا يتناسب مع صورة الحاكم والمحكوم السلسة الحبية الخيرة المتعارف عليها، والتي من المفترض أن تعطي ثمارها برقي الأمم ورفعتها ورخائها.


فالحاكم صار جائعا طوال الوقت فلا يحلو له إلا اللقمة التي تأتيه من فم الشعب الجائع، وصار عريانا فلا تكسيه إلا عرية شعبه، وصار جاهلا فلا يرضى أن يتعلم أفراد شعبه إلا بقدر أقل مما يدركه هو من الجهل. وصار عليل الصحة فلا يريد أن يباريه أحد من قليلي الصحة والمعتلين من أفراد الشعب بالوصول إلى أكسير الحياة الأبدية. وأصبح فقيرا فلا تنموا له الثروة إلا بعد أن يسلبها عنوة من جيوب ومخازن ومعطيات وخيرات شعبه وأرضه. وهو في خوف دائم على نفسه فلا يجد الوقت ليخاف على شعبه، ولا يحرص على أمنهم مثلما يحرص على درء هواجسه. فيحيط نفسه بالحراسات والترسانات المبالغ فيها، وبالجيوش المجيشة، بينما يحترق الشعب في الشوارع من الخوف والهوان وانعدام القانون. والحاكم منتهز للفرصة، التي لا تتكرر فلا يكاد يصل لسدة الحكم إلا ويلتصق بها، ويعشش في أوكارها، ويقسم أن لا يترك منصبه إلا بالموت، بل وبعد أن يهيئ من نسله من يسد السدة من بعده!.
فأين الحاكم الذي يستشعر ويؤدي واجباته نحو شعبه كاملة، دون أن يتبعها بالمن و الأذى؟. وأين الحاكم الذي يضع نصب عينيه هموم شعبه ويسعى لطردها؟. وأين مميزات الحاكم التي تجعله محبوبا بين شعبه، وأين شروط البقاء التي تتحقق بسيادة القانون، وتطبيقه على نفسه أولا، وعلى الكبير قبل الصغير؟.


وأين الحاكم الذي يتمتع بالراحة في الرحلة، ويترك القيادة كاملة للعقلاء الأمناء المستحقين من أبناء شعبه، بديمقراطية، وحرية فكرية، وأمانة وعدل؟