منذ سنيّه الأولى التي قضاها في حوزة النجف الأشرف انشغل السيد الراحل آية الله العظمى محمد حسين فضل الله بهموم الأمة الإسلامية ورصد بنظره الثاقب وفكره الحر عوامل تردي واقع المسلمين وتوصل إلى الأسباب التي تقف وراءه. ولأنه نشأ في بيت علم وعمل، وتنفس أجواء الحرية الفكرية في كنف أب لا يضع خطوطاً حمراء على أي تساؤل مهما غرب ولا على أية فكرة مهما شذت، استطاع أن يضع يده على quot;العلةquot; ويتعامل معها بشجاعة وجرأة وشفافية. فبدى له أن تمزق الأمة وتناحر أبنائها وتفرقهم شيعاً وأحزاباً هو علة العلل. فآلى على نفسه أن يعمل ما استطاع لنبذ تلك الفرقة ورأب ذلك الصدع الذي أوهن دور الأمة التاريخي الذي أنيط بها، وشل حركتها الفاعلة التي كان ينبغي عليها أن لا تتوقف.

فبلور مشروعه الاصلاحي التنويري وشرع يصدح به بعد أن اكتملت أدواته وظروفه الموضوعية. فأعجب به جيل كامل من المثقفين والطلبة والأكاديميين الذين أدركوا واقع أمتهم البائس وأعيتهم الحيلة عن تغييره.

ولعل من أبرز سمات ذلك المشروع هو دعوة السيد فضل الله الناس إلى اتخاذ منهج القرآن الكريم في إدارة الحوار بينهم وبين مخالفيهم، والسعي معهم للوصول إلى منطقة quot;الكلمة السواءquot; التي تمثل القواسم المشتركة بين الفرد (أيّاً كان ذلك الفرد) وبين الآخر سواء أكان ذلك الآخر من مذهب مختلف في إطار الدين الواحد أو كان من دين مختلف في إطار الإنسانية. فالحوار الموضوعي الهادئ البعيد عن التشنج هو السبيل الأمثل للوصول إلى الحقيقة بين أبناء المذهب الواحد،وبينهم وبين أبناء المذاهب الأخرى، وبين المسلمين وغيرهم ممن يدينون بدين غير الدين الإسلامي، بل وبين الدينيين - من أي دين كانوا- وبين اللادينيين مهما تعددت مشاربهم الفكرية.

ومن سمات ذلك المشروع أن لايعتبر المرء نفسه مالكاً للحقيقة المطلقة دون سواه من البشر، فإن فعل ذلك فقد قدم أكبر دليل على جهله وتخلفه وتعصبه الأعمى.

ومن سماته أيضاً الدعوة للابتعاد عن كل ما من شأنه أن يفرق الأمة ويزرع الفتنة بين أبنائها فإن الخلافات هوامش جانبية يجب أن لا ينشغل بها الناس عن قضاياهم الأساسية. هوامش أريد لها أن تكون فتيلاً لإشعال الحرائق فأعطيت حجماً أكبر من حجمها الطبيعي.

لقد وصف السيد رحمه الله الطائفية وصفاً في غاية الدقة حينما قال عنها إنها مادة قابلة للإشتعال في أي زمان ومكان. تأملوا معي في هذا التعريف العلمي الدقيق لهذه الآفة الاجتماعية، أو قل هذا المارد النائم في قمقمه الذي إذا ما خرج منه في أية لحظة تأريخية أو في أية بقعة جغرافية فإنه كفيل بتفكيك عناصر المجتمع إلى مكونات مسلوبة الإرادة توجهها الأحقاد وتتصرف بها الكراهية.

ومن سمات ذلك المشروع دعوة رجال الدين إلى مواكبة المنجزات العلمية التي حققها بنو البشر على مدى قرون من التجريب وإعمال الفكر. واستخدامها في تيسير أمور الدين على الناس بما يحقق لهم وحدة الكلمة ويكفل لهم السعادة.

ومن سماته دعوته الشجاعة إلى تهذيب الطقوس الدينية وتطهيرها مما علق بها من خرافات وخزعبلات لا تمت للدين الحنيف بصلة. بل تضر بصورة الإسلام والمسلمين أبلغ الضرر حيث ترسل للآخرين رسالة خاطئة فتصور الإسلام لهم وكأنه عبارة عن ممارسات متخلفة لشعوب بدائية لم تفقه من حضارة القرن الواحد والعشرين شيئاً.

ومن سمات ذلك المشروع إن الدين الإسلامي دين يسر فلا عسر فيه ولا حرج وعليه يتحتم على العلماء التماس أيسر الطرق وأقربها. وإن الله كرَّم الإنسان وجعل سعادته الغاية الأولى من بعث الأنبياء وتنزيل الكتب السماوية. فيجب أن يُحترم الإنسان وأن لا تُمتهن كرامته باي شكل من الأشكال، فهو - وإن كان يدين بغير ملة أو كان بلا دين ndash; طاهر بالإنسانية.

ومن سمات ذلك المشروع أن الأفكار مهما جنحت والأسئلة مهما اتسمت بالجرأة يجب أن تناقش ويجاب عليها بالتفصيل. فهذا هو منهج الله سبحانه. لقد جادل وحاجج وناقش في كتابه الكريم كل من طرح إشكالاً مهما كان شأن الطارح وأي كان نوع الطرح. ناقش نبيه الكريم وعباده المؤمنين، كما حاجج الكفار والمنافقين. وجادل في صغائر الأمور وفي عظائمها فلم يستثنِ من ذلك الجدال حتى ذاته المقدسة. فإذا كان هذا هو المنهج الرباني في الحوار كيف يتسنى لأحد أن يضع خطوطاً حمراء على هذه المسألة أو ذلك الأمر؟

ومن سمات ذلك المشروع أنه ألقى حجراً في المياه الراكدة ما لبث أن ولّد دوائر أخذت بالاتساع شيئاً فشيئاً لتشمل جميع ذرات تلك المياه. فناقش أموراً كانت تعد من التابوهات التي يحرم الاقتراب منها فضلاً عن مناقشتها. أمور أسبغت عليها شهرتها بين السابقين من العلماء قدسية أيما قدسية. فأثبت أنها قابلة للمناقشة والطعن بل والرد، ولا تعطيها صفة الشهرة أي نوع من أنواع القداسة إذا ما قام الدليل على بطلانها. والأمثلة على ذلك كثيرة يمكن للراغب في معرفتها الرجوع إلى مؤلفات السيد رحمه الله وأخذها من مظانها.

ومن سمات ذلك المشروع أن ينزل رجل الدين من برجه العاجي الذي وضع نفسه فيه طيلة عهود التخلف والانحطاط، أن ينزل ليكون بين الناس يعيش معهم مشاكلهم اليومية ويشاركهم في همومهم. وأن يخوض معهم في جميع شؤونهم الفكرية منها والاجتماعية والسياسية.

ولا يعدم هذا المشروع - شأنه شأن مشاريع التحديث والاصلاح عبر التاريخ- أن يجد من يقف بوجهه ويحاربه ويسعى إلى تشويهه. فكانت الحملة الموجهة ضد المشروع وحامله حملة شعواء ضارية لم يدخر فيها المناوؤون وسعاً في استخدام كل ما أمكنهم من جهد وامكانات لإجهاض هذا المشروع والقضاء عليه.

اليوم وقد رحل السيد فضل الله إلى جوار رب كريم تسعى الثلة المؤمنة بفكره الحر ومبادئه العظيمة أن ترفع لواءه وتكمل دربه الذي ابتدأه ورسم معالمه إيماناً منها أنه المنهج الأسلم في انتشال هذه الأمة من وحل التشذرم والطائفية والتخلف.

فرحم الله السيد محمد حسين فضل الله. كان علماً في الفقه والأصول والتفسير، وحجة في اللغة والأدب، وشاعراً مبدعاً خاض في جميع ضروب الشعر قديمه وحديثه، وبارعاً في شؤون السياسة والاقتصاد. وليس هذا وحسب بل وإنساناً تتناثر الرحمة من جنبيه تلك الرحمة التي نجح في ترجمتها حرفياً في مبراته العديدة التي آوت الآلاف من اليتامى والأرامل والمعوزين.

الجامعة الوطنية الأسترالية