تختلف المجتمعات في طرق التعامل مع الفكر، والمفكرين، فكلما كان المجتمع متقدما منفتحا فإن الفكر يعليه ولا شك، ويجعله دوما متحفزا للوصول إلى آفاق وقمم الثقافة الحقيقية عن طريق الرأي والرأي الآخر، والمحاورة الراقية المعتمدة على الاحترام المتبادل، والتبيان والحجج والمنهجية والخلفيات الثقافية المتنوعة. وكلما كان المجتمع منغلقا، كلما كانت العقول المفكرة فيه مقصية مهاجرة ممنوعة محرومة من مجرد التواجد الطبيعي، الذي تكفله للفكر كل الأعراف والقيم.
وحقيقة أن وفاة الأديب والمفكر العربي (غازي القصيبي) رحمه الله بالأمس لحدث يستحق التوقف عنده، ويجعلنا نتعجب من هذا الفارس، الذي لا يشق له غبار، ذلك، الذي لم يترجل عن صهوة فكره طوال حياته، ولا أظنه سيترجل عنها في القريب المنظور.

فقد كان محاربا مدججا بالثقافة العالية وبالحضور الطاغي، والقدرة العجيبة على قيادة معاركه الخاصة، والتي تعتبر عامة للكثير من مفكرينا، بيقين ودراية وثقة وثبات.
لقد كان نقطة ضوء وتوهج فكري أينما سار، في شعره، وفي رواياته، وفي حياته العملية، وفي تولي مناصبه المتعددة، وفي عزله عنها، وفي مناظيره ورؤاه الاجتماعية والسياسية.

لقد كانت أشعاره تقارع وتتآخى مع ثورات قوافي المتنبي، وكانت رواياته تجعل الفكر يتساءل ويبتكر ويرحل في الآفاق، وينفتح على كل الاتجاهات، فقد كانت رواياته حبكات محلية تسبق زمانها، وجرأة لا تمتلك معها إلا أن تقف متعجبا من قدرته على الإبداع، وعلى تمكنه من خوض الحروب المتعددة مع مناوئيه.
وقد كانت معاركه الفكرية مع بعض المفكرين المعارضين لفكره دليلا على أن سيفه حاد باتر، وعقله لامع ساخر، وفيضه الثقافي وأفر.
وللأسف الشديد أن يكون مثل هذا المفكر محاربا في بلده الأم طوال حياته، وممنوعا من نشر كلمته بالشكل الطبيعي، فيضطر كالكثيرين غيره للالتجاء لقنوات النشر العالمية، بعد أن لفظته قنوات النشر المتشددة في بلده.

وللأسف الشديد أن يأتي العفو عن كتبه في وقت متأخر جدا، بعد أن التهبت حكاياته وقصائده، حتى في أيام مرضه الأخير.
وتطوله يد المنية (رحمه الله)، فتكون وفاته، والصلاة عليه، ودفنته حكاية أخرى من حكايات معاركه، وحرب يخوضها بشراسة، حتى وهو مسجى بين يدي ربه.
إنه (رحمه الله) ذلك الفارس الذي لا يقبل أن يترجل، رغم رحيله عن دنيانا.

وسيضل ممتطيا لصهوات الأفكار، مشغلا لجميع من عرفوه، سواء كانوا مع فكره، أو ضده.
ببساطة لأن أفكاره مهما اختلفنا معها، لا تقتل بريئا، ولا تسفك دما، ولا تمسح حقوق المعارض ولا تنفيه وتحرمه.
إنه ببساطة طيف ثقافي متوهج كنا وسنضل نحتاجه في حياتنا الثقافية،
رحمه الله.


[email protected]