قريباً، وقريباً جداً، ستخرج مصر من بيتها، وتقف على بابه، منهكةً ومتعبة وجميلة ورائعة ودامعة، ومستندة على أكتاف أبنائها وبناتها، وسوف تشير بعيونها للحياة أن تنطلق من جديد.. وإلى الأبد.. لن تكون هذه الحياة مضغوطةً بحواسِّ السجن الكبير الذي سجننا فيه نظامٌ لا يرى أبعد من أنفه، حتى أنه أوقف أخيراً حركة القطارات خوفاً من quot;الزحف الكبيرquot; أو رغبة في تهدئة لم تعد ذات فائدة في دور quot;المُسكِّنquot;
والجميع الآن ينتظر.. مصر؟
ـ تنتظرها الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها الغرب، بلداً quot;مُستأنساًquot; لا يعطِّل المصالح الأمريكية في المنطقة، وأن تصطف واشنطن أخيراً إلى جانب المصريين، فليس لأنها أدركت أخيراً جمال سواد عيونهم، وإنما لأنها أدركت أنَّ ثمة مصر أخرى سوف تقف على باب البيت قريباً، وعليها أن تتعامل معها مباشرةً، وليس عبر نظام يتلقى الأوامر، حتى أنه أفرج عن مراسلي قناة الجزيرة بمجرد طلب الولايات المتحدة ذلك.
ـ وتنتظر إسرائيل مصر، أن تخرج مقموعةً بذلك النظام الذي يطالب المصريون برحليه، وحتى تظل مصر مستأنسة أيضاً، فلا تتمدد بأقدام أبنائها في سيناء للحياة والتعمير، ولا يطالب مصري quot;بأم الرشراش ـ إيلات حالياًquot; وهي أرض مصرية مائة في المائة، وحتى يظل نظام القمع ماضياً في تصدير سلعة ثمينة هي quot;الغازquot; الذي يموت المصريون من أجله في الشارع، حتى أن قادة إسرائيل يحثون الغرب على عدم الضغط على النظام المتصدع.
ـ القوميون العرب ينتظرون مصر كذلك، لتصديع رأسها بخطابهم الذي طالما أنتج خطايا وأخطاء، والذي طالما مجَّد الطغيان والطغاة، وليعيدوا وضع الأحمال النضالية على أكتاف مصر، تلك الأحمال التي ليس من بينها quot;النضال من أجل حياة كريمة وحرة للإنسانquot; طالما أنَّ quot;القضية أو القضايا حيَّة وحاضرةquot; فليذهب البشر في خطاب هؤلاء إلى الجحيم، وليكونوا وقوداً لكلام أهدر أقدار بلدان كثيرة في العالم العربي.
ـ الإخوان المسلمون هناك أيضاً ينتظرون مصر، وليتهم ينتظرونها كمواطنين مصريين وأتمنى ذلك، وإنما ينتظرونها كثمرة ناضجة لحلم الخلافة الإسلامية، ولاستعادة الفردوس المفقود في خطاب ديني، كان واحداً من أهم العناصر التي عطَّلت الحياة في مصر، ولم يكن هذا الخطاب بعيداً عن النظام المتصدِّع، فلطالما أقحم الدين فيما لا شأن له فيه، حتى أصبح المصريون في تخمة من خطابات دينية تنهال عليهم من كل حدبٍ وصوب.
ـ دكاكين المعارضة المصرية تنتظر أيضاً مصر، حتى تساهم بحصتها في اللغو الذي استمر طويلاً ولم ينتج عملاً ذا أثر ملموس في تغيير حياة المصريين إلى الأفضل، وهي معارضة مستأنسة، ومعظمها عمل عميلاً للنظام المتصدِّع.
ـ قادة الجمهوريات العربية المزمنون ينتظرون مصر، فربما نجا النظام المتصدِّع ونجوا هم أيضاً من مثال quot;الدولة الكبرىquot; في المنطقة، وبعضهم بدأ في إعادة حساباته، وأمس تحدث أحدهم قائلاً إنه يجب إعادة النظر في استراتيجيات الإعلام والسياسة في بلده، فيما أعطى آخر درساً للشعب التونسي في quot;خطيئة التخلي عن قائده الفار زين العابدين بن عليquot; هؤلاء القادة ينتظرون أيضاً مصر، لكي يتحسسوا مواقع أقدامهم وكراسيهم.
ـ شباب الجمهوريات العربية المزمنة، ينتظرون كذلك مصر، حتى يبدأوا خطواتهم نحو التحرر من حواسِّ السجن الكبير المعطِّلة للحياة، ذلك السجن الذي تحرسه أنظمة، لم تدرك بعد أنها شاخت وباخت وأصبحت عبئاً ثقيلاً ورذيلاً على أوطانها وشباب أوطانها ومستقبل أوطانها.
ـ المفكرون والمحللون والمنظِّرون والمثقفون والشعراء ينتظرون مصر، لكي يدلي كل منهم بدلوه quot;الكلاميquot; في التغيير، وأحدهم ربما كان يمزح في مقال له على إيلاف حينما قال quot;مبارك يدفع غالياً ثمن ديموقراطيتهquot; منوهاً quot;بالحريةquot; التي أتاحها مبارك للشعب المصري، الذي يعرف معظم أفراده quot;ماذا تعني تجربة أن تدخل قسم شرطةquot; ليس بوصفك متهماً وإنما بوصفك مواطناً يريد ورقة رسمية، حتى يمكن لهذا المفكر أن يتحدث quot;بيقينquot; عن ديموقراطية مبارك.
وأحدهم quot;شاعراًquot; كتب قصيدة في الترحيب بعودة quot;مصر أمنا إلى الساحةquot; وها قد عادت مصر أمنا إلى الساحة، فأين أنت في الساحة، وأين أنت في بلدك المنهك بالدم والنار منذ سنوات طويلة؟
ـ القنوات الفضائية تنتظر أيضاً مصر، حتى تستمر في تغطيتها اللانهائية للأحداث، وحتى تدير كل قناة الكاميرا الخاصة بها إلى الزاوية التي تريد أن تنظر منها إلى quot;ميدان التحريرquot; وليس مهماً بالنسبة لها الزاوية التي ينظر بها الشعب المصري إلى ميدان التحرير، حتى أن مذيعة في قناة غير مصرية قالت بالحرف الواحد quot;فلنستمع إلى رأي مواطنينا فيما يحدثquot; وكانت تلك القناة في تغطيتها لأحداث مصر، تتبنى أكثر وجهة النظر الحكومية للنظام المتصدِّع، وأرحب بالطبع بأن تعتبر المذيعة وقناتها المصريين quot;مواطنيهاquot; ولكن التعبير في حد ذاته ليس مهنياً بقدر ما هو تعبير انحياز في اللاوعي لجهة على حساب أخرى، والجهة الأخرى بالتأكيد ليست quot;المواطنينquot;
ـ وما يطلقون عليها quot;دول الاعتدالquot; تنتظر مصر، حتى يمضي هؤلاء في اعتدالهم تجاه قضايا المنطقة التي تعنيهم كما تعني مصر، كما ينتظرها ما يطلقون عليها quot;دول الممانعةquot; ربما خرجت مصر جديدة ثورية تقف مرة أخرى في مواجهة الإمبريالية والصهيونية.. إلى آخر هذه المعزوفة.
ـ والعالم كله ينتظر مصر، كلٌّ من وجهة نظره التي يريد أن تكون عليها مصر، فالعالم في الحقيقة وإن امتلأ بالبشر ذوي النوايا الحسنة، إلا أنه ليس المدينة الفاضلة، وعلى سبيل المثال فإنَّ الصين تعتم على أخبار الثورة في مصر، حتى لا تنتقل العدوى، وينتقد هوجو تشافيز رئيس فنزويلا نفاق الولايات المتحدة تجاه مصر، لأنه ومن موقع quot;ثوريتهquot; كان يريد من واشنطن أن تصطف مبكراً وبشكل مباشر إلى جانب المصريين، وإن كنت أوافقه الرأي، إلا أنه أيضاً يرى مصر من موقع عدائه للولايات المتحدة.
ـ المصريون وقبل الجميع، ينتظرون مصر، بلداً جديداً وحراً وديموقراطياً وعادلاً، وينتظرون أن تكون مصر quot;بلداً صالحاً لأبنائه أولاًquot; وسوف تكون مصر بلداً صالحاً لأبنائه أولاً، هؤلاء الَّذين دفعوا أخيراً ثمن أن يكون بلدهم حراً وكريماً الآن وفي المستقبل وإلى الأبد.
لكِ يا مصرُ السلامة.