بات المشهد الإعلامي المصري مضطرباً وغير قادر علي تشخيص العوارض السياسية المصرية الجديدة ،التي راحت تطيح بكل أشكال الفساد السياسي القديم لتفرض واقعاً سياسياً جديداً ، تلعب في فضائه أطرافا كانت محظورة أو مطرودة أو قابعة في غياهب السجون ،أتت بها الثورة المصرية ومن ثم صناديق الإنتخابات البرلمانية لتضعها في صدارة المشهد السياسي والإعلامي المصري الآن.

لكن الإعلام المصري للأسف لم يستطيع مواكبة ذلك التطور السريع الجاري في السياسة المصرية ،ولم يكن بمقدوره مضاعفة حجم مهنيته المتواضعة ليسبر أغوار ذلك المشهد السياسي عميق الدلالة ،لاينحاز لطرف بعينه إنما يكون إنحيازة لمصر فقط ، لكنه لم يستطيع فعل ذلك علي ضوء نتائج الانتخابات البرلمانية المصرية في مرحلتها الأولي ،التي دفعت بالإسلاميين الي صدارة المشهد وحصولهم علي نسب معتبرة في البرلمان القادم فغلبت العاطفة الإعلامية علي العقلية المهنية الصحفية وتقاربت وسائل الإعلام كلها في رسم صورة موحدة لما حدث وكأن البلاد تعرضت لغزو ديني لانعرف مصدره ، يحمل في طياته ما يهدد حياتنا ويجبرنا علي أن نسلك ما نكره ، وأن نحتمل ما لانطيق.

فالأمور يجب أن لا تسير علي هذا النهج الهزلي ، فسياسة الدولة هي التي تفرض واقعها المتشعب والمتشابك المصالح مع دول العالم الأخري من أجل مصلحة البلد أولاً ومن أجل تبادل المصالح ثانياً في وقت لايستطيع فيه أحد سواء كان إسلامي أو غير إسلامي علي التنصل من واقع تفرضه المصالح التي يجب أن تكون لها الأولوية لأنها تنعكس بالإيجاب علي المواطنين وهو الهدف الأسمي لأي حكم رشيد.

إذن فإن مهاجمة الإسلاميين اللذين أتي بهم صندوق الإنتخاب الي البرلمان ليس له ما يبرره الأن ، ولا يجب التنكيل بهم إعلامياً ، فالأمر في محل الإختبار ، والشعب الذي تعلم الإطاحة بحكامه الطغاة ، قادر علي محاسبة نواب برلمانه وعزلهم في حالة الإعراض عن تلبية مطالبهم التي قالوها جهارا نهارا العيش والحرية والعدالة الإجتماعية.

المسؤلية جد جسيمة علي نواب البرلمان الجدد ، فمصر هي أشلاء دولة ينتظرها عمل لاهوادة فيه حتي تعود للتماسك ويتملك زمام الأمور فيها الصادقين والشرفاء من أبناء هذا البلد الذي غابت عنه العدالة وساد فيه الظلم الإجتماعي وأصبح الفقراء فيه محرومين من كل شئ، يسكنون القبور ولايرون الشمس ،محرمون من شواطئ بحاره الممتدة، لايعرفون من شواطئه إلا الترع والمصارف ، يبيتون ليلهم في غرف صغيرة غير صحية كعلب السردين وغيرهم من الفاسدين مصاصي دماء الشعوب يمرحون في قصور غناء تفترش الجهات الأربع ما بين الشمال والجنوب وما بين الشرق والغرب وكلها من أموال هذا الشعب الصابر المبتلي.

ليس هذا هو الوقت المناسب لإجراء المحاكمات للإسلامين ، بل هو الوقت المناسب لإعطائهم الفرصة ، وليست فتاواهم المتضاربة الغريبة في الماضي ، إلا إنعكاساً لما كانوا يشعرون به في ظل التضيق عليهم ومحاصرتهم والحجر علي فكرهم ، وهو في أغلب الأحوال كان فكراً فرديا يصعب بناء رأي موحد عليه ، ذلك انه لا ينضوي تحت لواء حزب أوكيان سياسي كما أصبح واقعاً الأن.

لايمكن الخوف علي مصر في ظل الديمقراطية فثوابت المجتمع وقيمه متغلغلة في نسيج هذا الشعب لايمكن التأثير فيها بأراء الإسلاميين إذا ما خالفت الواقع ، فهذا الفكر السلفي الذي كفّر نجيب محفوظ لايستطيع الجهر به الآن ،بل يحاول التنصل منه الأن ، فقيمة نجيب محفوظ هي قيمة مصرية عالمية حددتها كتاباته التي وصلت ترجمتها الي كل بلاد الأرض ، وأصبح النيل من تلك القيمة والتحايل عليها يرتد علي أصحابها اللذين هم في إمتحان صعب الآن، لأنهم ببساطة مطالبون بتحقيق العدالة الإجتماعية وتطهير البلاد من بؤر الفساد ، والإرتقاء بالإنسان المصري الي مرحلة الحياة الأدمية.

إن ثمة نذر ستأتي بخطر محدق إذا فشل المصريون في التصالح مع أنفسهم ، وإذا فشلوا في أن يصبح قرارهم واحد ، وأن يدفعوا بالأفضل الي مراكز القيادة ، أما التمسك بالأنانية من أجل الكرسي ، فإن كرامة هذا الشعب الذي حرر الجميع الا نفسه سيكون بمثابة الخطر القادم في ثورته الجديدة التي ستحرق الأخضر واليابس.

[email protected]