حين نقول عن سوريا إنها بلدٌ تحكمه عصابة، فنحن نقرّرُ quot;واقعَ حالٍquot; ولا نتطاولُ أو نشتُم. خذوا تاريخ سوريا المعاصر، في الأربعين عاماً الماضية، وتأمّلوا كيف حكمَها الأسدان، الكبير والصغير، ثم إلى ماذا انتهت، واحكموا بعد ذلك.

أما أنا، الذي لم أزر سوريا في حياتي، فيكفيني ما أسمعه وأراه هنا في برشلونة الجميلة، من أعضاء الجالية السورية، وكيف كانوا يعيشون رهاب مخابرات بلدهم الأم حتى وهم بعيدون عنه في قلب أوروبا الخضراء.

كانوا فاقدي الثقة ببعضهم البعض. وكانوا يعرفون كتبة التقارير منهم إلى مخابرات النظام، فيتحاشونهم، ويحسبون لهم ألفَ حساب.

بمعنى وحيد، ودون الخوض في ملايين التفاصيل التي يصل عبثها الأسودُ حدّ الكاريكاتير- كان المواطن السوري المغترب، سواء أكان طبيباً مشهوراً أو جاليَ صحونٍ في مطعم، مخصياً ما إن يواجه أي شكل من أشكال دولته الأمنية: سفارة النظام مثلاً. مخصيّاً بالمعنى النفسي والوطني وحتى الآدمي للكلمة.

وما ينطبق على حالهم في إسبانيا، ينطبق بالتأكيد على أي تواجد لهم، في أربع جهات الريح (وانطبق من قبل على جيرانهم العراقيين). فإذا كان هذا هو حالهم في بلاد الغرب الديموقراطي، فكيف يكون حال أهلهم وأخوتهم داخلَ مملكة الرعب نفسها؟

إنّ واحداً مثلي، يشتغل على ما بين السطور، وما وراء الواجهات، يكفيه هذا الحال، ليقرّر بضمير مرتاح بأنّ من حكم سوريا، بهذه الطريقة، طوال هذه المدة، هو زعيم عصابة ورئيس مافيا، لا رجل دولة.

رجل دولة؟
يا له من تعبير حديث لم يمرّ على العرب المحدثين بعد.
إنّما ما علينا. المهمّ الآن، طيّ صفحة هذه العصابة والنظر إلى المستقبل.
فسوريا، مثل أيّ بلد عربي، ليست مزرعة تُورّث حتى لو خُيَّلَ لكل حكامنا الإقطاعيين، في عصور ما قبل الثورات، أنها كذلك.

الآن ثمة صفحة جديدة تُفتح في تاريخ هذه المنطقة التي أُبتليت بحكام أسوأ من الاستعمار الأوروبي ذاته. حكام هم صنائع هذا الاستعمار، وهو الذي حمى كراسيهم، ومدّ لهم حبل البقاء في الكرسي، لثلاثين وأربعين عاماً، كيما يضمن مصالحه ومصالح ربيبته إسرائيل.

حكامنا العرب (ونظام الأسد الطائفي، واحد منهم، لكنّه وصدام حسين من أكثرهم سوءاً) هم جميعاً رجال عصابات وزعماء عصابات. بلادهم ملك لعوائلهم. إنه أفظع وأبشع وآخر نظام إقطاعي عرفه تاريخُ السياسة المعاصرة في الكوكب الأرضيّ كلّه.

وعليه، فإني أستغرب كيف لمثقف يحمل رسالة تنوير وتثوير أن يقف معهم ويدافع عنهم بحجة الممانعة والمقاومة؟

فالممانع الحقيقي والمقاوم الحقيقي، هو رجلٌ حرّ بالضرورة والوجوب. وعليه، فهو أولَى الناس بالوقوف ضد الفساد والاستبداد (وهما دائماً زوجان كاثوليكيان)، وأولى الناس أيضاً في تعريتهما وفضحهما، لأنهما نقيضا الممانعة والمقاومة الأوّلان.

لقد شاركت هنا في برشلونة مع مثقفين يهود تمردّوا على إسرائيل الصهيونية. وآلوا على أنفسهم، في ما تبقّى لهم من عمر ووقت، أن يفضحوها في كل ندوة ومقال وكتاب. وأن يقفوا مع الشعوب العربية وربيعها، بصلابة استمدوها من المبادىء الإنسانية العليا، ومن الولاء للحقيقة والأمل أولاً وأخيراً.

وأنا أقول، إنّ رموز الاستبداد العربي، هم صهاينة العرب. وعلى كل مثقف عربي، أن يقف ضدهم، لا معهم.
فهم من أوصلوا شعوبنا لهذا الدرك الأسفل من التاريخ. هم من جعلوا صغار الصهاينة وكبارهم يهزءون منا شعوباً وكياناتٍ وقضايا.

شيء عجيب أن أشارك مع بروفيسور يهودي من أصل بولوني في ندوة، يدافع فيها عن الربيع العربي بحرقة وعقل، ويقف مع الشعوب العربية قاطبة في قضاياها العادلة، وبالأخصّ مع الشعب السوري البطل. بينما، على الضفة الأخرى من نهر الدم، يقف مثقفون عرب، بشكل صريح أو ملتوٍ، مع طاغية دمشق. تحت حجج وتبريرات لا تصمد لأي حوار منطقي او مساءلة تاريخية أو سجال محترم.

شيء عجيب حقاً: نبضُ شعوبنا وصلَ لبعض المثقفين اليهود الشرفاء، أمثال إيلان بابيه ونعّوم تشومسكي وسواهما، بينما لم يصل لمثقفين من طينتنا ويعيشون بين ظهرانينا ومحسوبين علينا.
ثم ... كيف لمثقف يحترم نفسه أن يدافع عن رئيس عصابة؟

يا للهول!
يدافع عن رئيس عصابة؟
ومع ذلك، تحدث .. نراها تحدث في كل زمان ومكان، وفي أوعى الفئات!

لكنّ هذا لن يغيّر من حقيقة أنهم سقطوا ما إن وقفوا مع الطاغية.
لقد أصبح الأسد المستأسد على شعبه فقط، شيئاً من الماضي الأسود لتاريخ سوريا. حتى وهو لم يسقط عسكرياً بعدُ.
ذلك أنه سقط أخلاقياً منذ أول رصاصة أطلقها على أول طفلٍ في درعا.

أما من يدافع عنه ما زال، فإنه ساقطٌ أخلاقياً أيضاً.
حتى لو كان في مجاله، اسماً له تاريخ.
فلا فصل بين الموقف والكتابة.

هذا هو واحد من دروس الربيع العربي المبقّع بالدم: لا فصل بين موقف المثقف مما يدور حوله وبين كتابته.
الفصلُ، كان وهماً وانقضى. تماماً كما سيمضي وينقضي زمن هؤلاء الطغاة الوالغين في المجازر، مع ماسحي أحذيتهم من المثقفين، في المدى القريب والمتوسط.