في كل مرة يعلن رئيس الوزراء نوري المالكي عن نجاح حكومته في القضاء على الإرهاب، يفاجأ الشعب العراقي بموجة جديدة من التفجيرات والمآسي، وقد بات واضحاً إن ألإرهاب في البلاد أصبح تجارة رابحة لبعض السياسيين، ووسيلة للضغط في حربهم ضده، بخاصة بعد صدور حكم الإعدام على نائب الرئيس السابق طارق الهاشمي، فقد تدفقت العمليات القاتلة في مناطق متعددة من البلاد، لتحصد المزيد من الضحايا، وآخر نذر الشر ماحصل بموقف التسفيرات في مديرية شرطة تكريت، حيث هرب أربعة وسبعون سجيناً، أكثر من نصفهم من مجرمي القاعدة والمحكومين بالإعدام، المدانين بجرائم قتل وتفجير. ومادام الرئيس متشبثاً بالسلطة إلى أبعد الحدود، يفترض به كرئيس حكومة وقائد عام للقوات المسلحة، فضلاً عن مهماته الأخرى، أن يعمل بأقصى طاقاته لمحاربة الإرهابيين، وأن يحاول التقرب من الجماهير وكسب تأييدها لشد أزره، فهل بذل الرئيس حقاً جهداً مركزاً للقضاء على قتلة العراقيين، وهل بحث عنهم جيداً بما فيهم من يشاركون في الحكم، أم تراه أهمل متابعة بعض أجهزته الأمنية، وتغاضى عن حروبها الصغيرة ضد المواطنين الآمنين في منتديات اجتماعية وثقافية، كالذي حصل في بداية شهر أيلول -سبتمبر؟

وكنت قد باشرت بالكتابة عن حملات عنف رسمية، وبالسلاح، طالت منتديات اجتماعية وثقافية، من بينها أندية الإتحاد العام للأدباء والكتاب، والسينمائيين، والصيادلة وجرى خلال الهجمات الاعتداء على روادها من العزّل المسالمين الذين لم يقترفوا أي جريمة، سوى أنهم يختلسون بعض الوقت للحديث مع أصدقائهم في سكينة وسلام، يحاولون نسيان معاناتهم في عراق حلموا بأن يكون جديداً، لكنه أتخم بكل ماهو قديم ومهترئ في الثقافة والحياة، وفوق ذلك الكثير من القسوة. تلك القسوة الغريبة التي دفع ثمنها باعة الكتب في شارع المتنبي، الذين تحملوا نصيبهم من هجمات قوات الأمن، وشهدوا بحسرة تحطيم موائد كتبهم االعامرة بنماذج من الفكر لا تحظى بتقدير الحكومة، بل هي مبعث ازدرائها، كادحون عانوا لسنوات طويلة منذ عهد النظام السابق وسنوات الحصار، باعوا مكتبات بيوتهم ليطعموا أولادهم، ومازالوا بعيدين عن رعاية الدولة، شارع المتنبي هو رمز قديم وعزيز على كل من يحب العراق، فلماذا يجري العدوان عليه؟ هل نحن أمام quot;ثورة ثقافيةquot; ارتدادية تستهدف طمس معالم الشخصية العراقية وحبسها في إطار من التديّن الحكومي الزائف؟ وهل فتشت قوات الأمن محتويات الكتب فلم تجد فيها تراثاً أو ديانة، أو فلسفة رصينة أو حكمة، أم ترى إن المهاجمين ومن سلّحهم بالأوامر قد هجروا القراءة، أو هم لا يقرأون أصلاً؟

قلت أني بدأت بالكتابة لكني آثرت التأجيل، أملاً وحلماً بأن أسمع من رئيس الوزراء كلمة اعتذار للمواطنين عما حصل من قواته، ربما لم يكن يعرف لكثرة الإختراقات في الأجهزة الأمنية والعسكرية، لكنه لم يفعل، ففكرت أن أجيب على سؤال يؤرق الكثير من العراقيات والعراقيين، هل بدأ تشكيل الدولة الدينية فعلاً؟ وليسمح لي السيد المالكي بالإجابة نيابة عنه، باعتباري مواطنة عراقية منحته صوتي، تقديرا لإنجازاته في دورة حكمه الأولى، ونجاحه في بسط الأمن في محافظة البصرة:

نعم، الدولة quot;الدينيةquot; في طور التشكل وهذا ما تشير إليه ديباجة الدستور، وما صرح به نائب قائمتنا دولة القانون، علي العلاق، وهو عضو في لجنة الأوقاف النيابية، من أن مسودة قرار لمكافحة المشروبات الكحولية ستعرض على البرلمان، وكذلك ما قاله الخطيب صدر الدين القبانجي، وهو قيادي بارز لدى حليفنا المجلس الإسلامي الأعلى، من على منبره في مدينة كربلاء، مطالباً بـ lt;إحياء سُنّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرgt;. أزيد على هذا بأن شرطة الآداب في وزارة الداخلية، منعت النساء السافرات، والشباب غير الملتزمين بملابس محددة، من دخول منطقة الكاظمية، وأكدت ذلك لجنة الأوقاف والشؤون الدينية في مجلس النواب. كما سبق لمحافظة بغداد أن تفضلت قبل أشهر برعاية حفل لتحجيب خمسمئة يتيمة، بلغن سن التاسعة، وبفضل الله فمثل هذا الحفل يجري في كثير من المدن. كل ما تقدم على سبيل المثال فقط. هنا تنتهي إجابتي نيابة عن الرئيس، لكن ما سبب لي الحيرة هو خطابه أمام جمع من الفنانين والأدباء في مؤتمر نظمته لجنة متابعة وتنفيذ المصالحة الوطنية في بغداد مؤخراً، وكأنه يعتذر عن إهانة المثقفين في منتدياتهم، داعياً إياهم إلى أن يشاركوا في lt;التأسيس لثقافة مستدامة وإشاعة ثقافة الإلتقاء مع الآخرgt;، والمساهمة في جهود المصالحة والتصدي للتطرف والعنف، وإلي أن يأخذوا دورهم في تقديم الصورة الصحيحة للثقافة في جميع مجالات الحياة، على أساس حرية التعبير.

لعلّ القارئات والقراء يشاركوني الحيرة بشأن مفردات الخطاب، أي ثقافة يقصدها، ولماذا يقيدها بـquot;الصورة الصحيحةquot;؟ ألا يشير قوله إلى إن هناك نمطاً معيناً من الثقافة مسموح به فقط؟ وبهذا يصبح تأكيده على حرية التعبير بلا معنى. الثقافة كالأنهار تجري، لا تقبل الركود والقوالب الجاهزة وإلا فهي رسالة حزب محدد بفكر معين، أي نقيض للثقافة بمعناها الشامل.

إن المثقفين لا يمكن أن يلبوا دعوة الرئيس المتأخرة إلا بتوفر النوايا الصادقة، وكونه قادر فعلاً على أن يضمن المعاملة المتساوية لجميع أبناء الشعب أمام القانون، وأن تكون دولة القانون حقيقة وليس قولاً أو أملاً، ولي أن أسأل السيد المالكي، هل يتساوى رجل الدين مع المثقف بنظره، أم إن الأول له الحظوة والمقام الأول؟ وهل يستطيع مواجهة سلطة رجال الدين على المجتمع؟ أكاد أعرف الجواب، وأنا أتذكر ما سمعته قبل عام من صديق متخصص بالبحث القانوني، يحلم بعراق يستعيد عافيته القانونية الخمسينية، بأن أصدقاء له شجعوه على العودة للعراق والعمل في المحكمة الإتحادية، ورتبوا له موعداً مع رئيسها على سبيل التعارف، وبينما كان في الإنتظار، دخل شيخ معمم مهيب، ترتسم على وجهه ملامح السلطة، وشقّ طريقه إلى مكتب رئيس المحكمة، غير عابئ بتنبيه مدير المكتب، زاجراً إيّاه، مستهزئاً بمن هم قبله من الزوار المنتظرين. بعد هذا المشهد قرر هذا الباحث أن يصرف النظر عن أي عمل قانوني في العراق، على الرغم من توفر الواسطة المطلوبة.
ختاماً أتمنى أن يكون رئيس الوزراء في وضع يسمح له بمنح المثقفين ولو قدراً قليلاً مما يستحقونه من حقوق، وبذلك يمكن التفاؤل بخطابه الأخير.


[email protected]