يذكرني مصطلح عدم الإنحياز بتسمية quot;الجمهورية العربية المتحدةquot; التي ظلت القيادة الناصرية، وعلى مدى سنوات طويلة، تطلقها على مصر حتى بعد انهيار الوحدة التي جمعت بينها وبين سوريا في العام 1958. وبمناسبة انعقاد المؤتمر السادس عشر لدول حركة عدم الانحياز في طهران، أحاول أن أفهم كيف تكون الدولة غير منحازة، ولذلك سأطرح أسئلة وأجيب عليها، تاركة للقارئات والقراء أن يفكروا فيها ويصححوا لي إن أخطأت.
ابتداءً أعود إلى تاريخ تأسيس الحركة، فقد عرفت مقدماتها في مؤتمر باندونغ في العام 1955، الذي حضرته تسع وعشرون دولة، وانعقد في ظروف الحرب الباردة بين نظامين جبّارين، اعتليا مركز الصدارة والقوة بعد القضاء على دول المحور في نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت الدول الإستعمارية مازالت تدافع عن مواقع نفوذها، والبلدان المستعمرة تكافح من أجل الخلاص من السيطرة الأجنبية، وفكرة عدم الإنحياز كان صاحبها بإخلاص، الزعيم الهندي جواهر لال نهرو، ووجدت صداها لدى الرئيسين ،اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو، وجمال عبد الناصر، وهؤلاء الثلاثة أصبحوا قادة للحركة، وكل منهم كان يطمح إلى تطوير تجمع دولي يشكل قوة ثالثة يمكن أن تساعد في تحقيق مصالح دولته أمام تهديد القوى الكبرى، ودعم الشعوب التي تناضل من أجل الإستقلال، وذلك باتباع سياسة الحياد الإيجابي بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي، وتجنب الوقوع في شرك المساومات بينهما. وبعد ستة أعوام من تجمع باندونغ، عقد مؤتمر بلغراد وأعلنت خمس وعشرون دولة عن قيام حركة عدم الإنحياز، من بين هذه الدول من كانت منحازة للسوفيت مثل كوبا، وللولايات المتحدة كالمملكة العربية السعودية، وعلى خلاف مع السوفيت مثل يوغسلافيا، غير أنه بشكل عام كان يغلب على التجمع، مناهضة الغرب بوصفه المعبّر عن لمصالح الإستعمارية، والميل إلى الإتحاد السوفيتي، بما أنه يعلن مناصرته لحق الشعوب في تقرير مصيرها. أي إن نشأة الحركة كانت ملتبسة وتسميتها غير دقيقة، لكن ما جعلها مقبولة، وجود قطبين غالبين، يمكن العمل بينهما بحنكة سياسية تتلافى السقوط في دائرة نفوذهما، ومن ناحية أخرى وجود دول مؤسسة للحركة، كالهند لها ثقل دولي يتيح لها العمل باستقلالية نسبية. هذا شيئ عن الماضي، فماذا تعني حركة عدم الإنحياز في حاضرنا المثقل بالأقطاب المتعددة، بعد تراجع مرتبة الإتحاد السوفيتي؟

يفترض إن الحركة قامت على مبادئ باندونغ العشرة، وهي:

إحترام حقوق الإنسان الأساسية وميثاق الأمم المتحدة، واحترام سيادة الدول، إقرار مبدأ المساواة بين الأجناس وبين الدول، عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، احترام حق دفاع الدول عن نفسها، عدم استعمال الأحلاف الجماعية لتحقيق مصالح للدول الكبرى والامتناع عن ممارسة ضغوط على الدول الأخرى، الامتناع عن التهديد باستعمال القوة ضد أي بلد، التزام الحل السلمي لفض الصراع وفق ميثاق الأمم المتحدة، تعزيز المصالح المشتركة لدول الحركة، وأخيراً احترام العدالة والإلتزامات الدولية.
غني عن البيان إن قيادات أغلب الدول الأعضاء في الحركة لم تكن تطبق هذه المبادئ، منذ البداية، ولي أن أسأل: هل كان عبد الناصر ملتزماً بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للعراق حين كان يتآمر للإطاحة بحكم الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم، وهل كان يلتزم بالعدالة وميثاق حقوق الإنسان، في مصر وسوريا أثناء رئاسته لدولة الوحدة، كيف حرّم الأحزاب وفتح السجون للمعارضين وتغاضى عن تعذيبهم أو أمر به؟ وهل كان كاسترو عادلا ومطبقا لمعايير الأمم المتحدة، حين بدأ تأسيس دكتاتوريته ولم يسلم من اضطهاده حتى الشيوعيين؟ هل كان بعض القادة يؤمنون بإنصاف الأقليات في مجتمعاتهم، أسئلة كثيرة على سبيل المثال لا الحصر، وقد تطرقت إلى عبد الناصر باعتبار مصر دولة مؤسسة للحركة.
والآن ماذا تعني الحركة في ظروف الأقطاب المتعددة، كيف تكون الدولة غير منحازة، وابدأ بإيران التي استضافت القمة الأخيرة، وقطر الدولة الخليجية الوحيدة التي تمثلت بشخص أميرها حمد آل ثاني. إنها لمفارقة عجيبة يترجمها موقف البلدين من الصراع الدائر في سوريا، الدوحة وطهران ضالعتان في التدخل بشؤون سوريا، الأولى تدعم المعارضة، والثانية تؤازر نظام الأسد، الأولى مع الغرب وعلى أرضها قاعدة أميركية، والثانية تنسق مع روسيا والصين في مواجهة قرارات العقوبات على سوريا وهذه الأخيرة مازالت عضو في حركة عدم الإنحياز، وهي تستضيف قاعدة عسكرية روسية في مدينة طرطوس، أي عدم أنحياز هذا وبين من ومن؟ ثم إن القيادة الإيرانية التي تكثر الحديث عن المستضعفين وتغرق في ظلال تدينها، السياسي، تحكم شعبها بدكتاتورية ولاية الفقيه الذي تعلو كلمته على إرادة الشعب، ولاتعترف بالسلطة المعنوية لميثاق الأمم المتحدة، أمام تفويضها الإلهي المفترض، فضلاً عن اضطهادها للنساء والأقليات.
أفغانستان والعراق في دائرة النفوذ الأميركي، وهما بلدان في الحركة، إيران تمارس ضغوطاً كبيرة على العراق، وفي الوقت نفسه تدعو إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، الرئيس عمر البشير مازال يمسك بعصاه ويهدد شعبه، ويداه مغموستان في دماء معارضيه في دارفور والجنوب، وهو مازال إسمياً ضمن المؤمنين بمبادئ باندونغ في المساواة بين الأجناس، مع إن شرطته تجلد النساء في الشوارع. وبعد فإن كوريا الشمالية الغارقة في عبادة القائد، والتابعة للصين كيف ننظر اليها بمنظار عدم الإنحياز، الدول الخليجية وتاريخ سياستها المعلن في التنسيق والتكامل مع الغرب، كيف تكون غير منحازة؟
هذا قليل من كثير، وأخمن إن لا أحداً سيختلف معي في الجواب، كل الدول أو معظمها منحازة بشكل أو آخر لهذا القطب القوي أو ذاك، وبالطبع الإستثناء يبقى للهند تلك الأمة العظيمة. إن التكتلات الكبيرة بمستوى مئة وعشرين بلداً لحركة عدم الإنحياز، ليست مجدية إلا بقدر استطاعة الدول القوية في إطارها، من تحقيق مصالح أو ترتيب محاور، وتشير صحيفة إيران ديلي إلى إن هناك حديثاً عن اتفاقيات اقتصادية بقيمة ستين مليار دولار، ستوقع بين الحكومة الإيرانية، وبعض دول الحركة، وهي نتيجة لمباحثات جرت على هامش قمة طهران.
على كل حال فإن هناك نوع من القرابة بين قمم عدم الإنحياز، والقمم العربية، القيادات على خلاف، بل وفي صراع أحياناً، والمناهج مختلفة، وفوق ذلك دول واقفة على أرضية انحياز، لذلك أجد من المنطقي أن تتفتت دول الحركة إلى مجموعات منسجمة، تستطيع من خلال اتفاقها السياسي، أن تكون بوضع أفضل في مواجهة الأقطاب القوية.

[email protected]