غريبة تلك الأصوات التي تدعو إلى الثأر للرسول (ص)، ولكرامة المسلمين، وتتزاحم أوتار حناجرها حتى تكاد تتقطع من هول الهتاف، من قال إن نبي المسلمين بحاجة إلى عون أو نصرة، وأمام أي عدو؟ مقطع من فلم لا قيمة فنية له ولم يعرض في دور معتبرة للسينما، ولم يجرالإحتفاء به على مستوى ولاية أميركية أو دولة أوروبية، هل وصلنا إلى هذه الدرجة من الضعف بحيث تفزعنا مشاهد ساخرة ومتهافتة؟ لقد شاهدت الفلم ودهشت من ركاكة الحوار وسخافة الطرح وأسلوبه المباشر الفاقع، وكانت وزيرة الخارجية الأميركية قد وصفته بأنه مقرف، كما قال عنه الأديب سلمان رشدي بأنه ضعيف وإن quot; الرد الطبيعي على الفلم الفاشل هو تجاهله والنظر إليه على إن مكانه سلّة القمامة .. quot; وأضاف منتقداً الضجّة التي أثيرت حوله quot; .. إن الرد عليه بهذا العنف سخيف وغير لائق quot;. نعم أن ردود أفعال بعض المسلمين من ذوي الأصوات العالية والهمم الفارغة لا تليق بمكانة الرسول، كما لا تتفق مع توجيهات قرآنية واضحة: quot; والذين هم عن اللغو معرضون - المؤمنون 3 quot;، quot;وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراما ndash; الفرقان 72quot;، فما كان ينبغي على المسلمين إن كانوا مؤمنين حقاً أن يجاروا أعداءهم بلغة السب والشتم، وأن، يلجأوا للعدوان على الأبرياء، فأن سمعوا قولاً يكرهونه، أكرموا أنفسهم عن الخوض فيه. شخصياً أنا أشك بإخلاصهم للإسلام، لأن الإيمان الحقيقي هو مدعاة لهدوء النفس والثقة بقدرتها على الثبات في الإعتقاد، ومن شأنه أيضاً أن يصرف الناس عن العنف. ولا يجوز للمسلمين أن ينسوا ما جاء في القرآن من النهي عن إيذاء الناس بجريرة أفعال غيرهم، فالآية السابعة من سورة الزمر، تقول: quot; لاتزِر وازرةُ وزر أخرىquot;، فهل التزم الهائجون الغيارى على الإسلام بما أرشدت اليه الآية، أم راحوا يهاجمون الكنائس، ويحرق أحد مشايخهم الإنجيل، ويهدد بالتبول عليه، كما أحرقوا سفارات، وباشروا ألواناً من العنف غير المبرر. برأيي أن ما شهدناه من ردود أفعال هوجاء، أسماها الرئيس المصري ب quot; الغضب الدينيquot; أبعد ما تكون عن الدين، بل هي تعبير عن عقدة نقص متراكمة، فالعجز عن مجاراة الغرب بمخترعاته وتطوره في جميع المجالات، من السهل تعويضه بالتهديد والوعيد، إنها عملية ترحيل واقع بائس لبلدان لا تجيد حكوماتها غير خطط الإستهلاك، ولا تنتج مناهجها غير التعصب، شبيبتها تفتقر إلى الرعاية الإجتماعية على مستوى الدولة، ولا تعيش في أجواء صحية للتعبير عن الذات في محيطها العائلي، تبحث عن فرص للتنفيس عن غضبها فتجدها لدى رسام دانماركي أو منتج فلم أميركي، وستجدها أيضاً في مجلة شارلي هيبدو الفرنسية، غضبها ليس فقط نابع من الإحباط، بل هو حصيلة شحن مدروس من قبل رجال دين أغلقوا عقولهم عن الحكمة وأطلقوا العنان لغرائزهم. إن حرية التعبير في الغرب، التي كلفت شعوب أوروبا وأميركا قروناً من البناء والنضال، لن تتوقف على رغبة فئات من المسلمين، بعضها مسيس طامح إلى السيطرة على المجتمع وتحجيبه، وبعضها الآخر جاهل وتابع.
وهناك من وجد ضالته في quot;براءة المسلمينquot; لتأكيد سطوته على المجتمع، فقد خرج السيد حسن نصر الله من مخبأه، ليحث أصحابه على التظاهر احتجاجاً على الفلم، مطالباً باصدار قرار دولي، وقوانين وطنية في كل العالم، تحرم الإساءة للأديان السماوية. هو غيور على كرامة المسلمين، لكن عنده يجوز إهدار دم الكثير من المسلمين السوريين على يد حكومتهم، في الأقل عند بدء الثورة السورية، حين كانت سلمية، وقبل ذلك كان يغض النظر عن مذابح القاعدة والمتطرفين ضد مسلمي العراق، بدعوى اصطفافه مع مقاومة مزعومة. إن من يدّعون الدفاع عن النبي ليسوا أبرياء من الغايات السياسية، باستثناء الجمهور البسيط الذي لايفقه شيئاً من ألاعيب السياسة.
والفلم على تفاهته فتح شهية القتل لدى بعض المتشددين من رجال الدين في إيران، فاستعادوا فتوى زعيمهم الخميني بإهدار دم الكاتب سلمان رشدي، التي أصدرها في العام 1989، فقد أعلنت مؤسسة خورداد شبه الرسمية، عن زيادة مبلغ الجائزة المخصصة لمن ينجح في اغتيال رشدي، لتصبح 3.3 مليون دولار. وكانت هذه المؤسسة قد أعلنت عدم موافقتها على إبطال مفعول الفتوى، التي سبق لإيران أن تخلت عنها في العام 1998، ما سهل عليها إعادة علاقاتها الدبلوماسية مع بريطانيا، لكون الكاتب المذكور مواطناً بريطانياً.
أسواق المزايدة والغيرة المصطنعة على الإسلام حافلة بالمشترين والبائعين، فقد أعلن الإدّعاء العام في روسيا أنه يعتزم مقاضاة منتجي الفلم أمام محكمة روسية، كما رصدت قطر مبلغ 450 دولار لإنتاج فلم عن حياة الرسول (ص)، يخاطب الناطقين بالإنكليزية، وليت هذه الدولة كانت سخيّة مع ضحايا المجاعة والحروب من العرب والمسلمين، بمثل سخائها على السينما الدعائية والاستثمار في غير المشاريع الإنتاجية، وليتها لم تحتضن قناة الجزيرة التي دأبت التحريض على القتل، واستضافة مشايخ الإرهاب، لكُنا باركنا غيرتها على الإسلام.
إن كثيراً من المسلمين يعتقدون إن من حقهم أن يثوروا على الغرب، حتى في ديار اللجوء التي آوتهم، بدعوى إهانة مقدساتهم، لكنهم لا يلتفتون إلى ما سطرته بعض كتب التراث المعتمدة من أفكار تزدري أصحاب الديانات الأخرى، وكذلك ما يخرج من أفواه عدد لا يستهان به من الدعاة الفضائيين، والأرضيين من خطباء المساجد، من كلمات مهينة بحق المسيحيين واليهود. وحتى يكون لنا حق الإحتجاج على ما يقوله المسيئون إلى نبينا، لابد من إعادة النظر في بعض من الروايات التي لاتخدم الدين، وتترك انطباعاً شديد السلبية عن أخلاقنا لدى دول الغرب. وعلى سبيل المثال لماذا لا يجري تعميم نتائج الدراسة التي أنجزها الباحث المصري إسلام البحيري وأثبت من خلالها إن الرسول حين تزوج من عائشه، كان عمرها سبعة عشر عاماً وليس تسعة أعوام، وقد اعتمد على مصادر معتبرة كالطبري والكامل وتاريخ دمشق وسير أعلام النبلاء، وغيرها، كما كشف التناقض بين روايتي إبن كثير في البداية والنهاية،والبخاري عن عمر عائشة، ولفت الإنتباه إلى روايتين متناقضتين أيضاً عن عمرها للبخاري نفسه. كما تتبع البحيري سند جميع الروايات عن عمر عائشة، وهو هشام بن عروة، وتبين له أنه لم يكن مصدر ثقة لنسيانه وتغييره للحديث، وإن الإمام مالك لم يضمّن كتابه الموطأ أي ذكر لعمر عائشة، على الرغم من لقائه بالراوي في المدينة وسماعه منه.
نحن بحاجة إلى مثل هذا البحث كي ننفي عن نبينا زواجه من طفلة صغيرة لا تدرك معنى الزواج، وهذا ما يستغله بعض الكارهين للإسلام في الغرب، ويتخذونه موضوعاً لرسوماتهم الساخرة. ومازلت أذكر سذاجة تعليمنا الديني فقد كانت معلمتنا تروي لنا وهي مقتنعة ومبتسمة بأن عائشة كانت تلعب وهي زوجة للرسول، فيقول لها لقد أصبحت امراة، وتقول لنا كيف أن أمها أنزلتها من الأرجوحة لتزينها وتزفها لعريسها، كنا صغيرات نقبل كل ما يلقنوننا إياه، واليوم مازال العقل الإسلامي بعيداً عن لغة النقد والتحليل، مكرساً للنقل كآلية سهلة لقمع المعارضين من الباحثين الصادقين. وبشأن علاقة النبي بزوجاته، تروى أحاديث غير لائقة، من شأنها أن تسيئ لمكانته، من بينها إنه quot; كان يدور على نسائه، في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهنّ تسع quot; وإنه كان يتمتع بقدرة ثلاثين رجلاً (عن قتادة عن أنس بن مالك)، وبالمعنى نفسه ينقل عن الرسول: quot; أتاني جبريل بهريسة من الجنة فأكلتها فأعطيت قوة أربعين رجلاً في الجماع quot;. أتساءل هل هذه الأحاديث تعلي من شأن نبينا؟
أحاديث أخرى تسيئ للرسول لابد من تحري مدى خطورتها على المسلمين، مثال ذلك حديث رواه أبو هريرة، نقلاً عن عبد الله بن عمر:
quot; أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم .. quot;. هذا الحديث يروج له الدعاة السلفيون من أمثال أبي إسحق الحويني، ويشرحه المعتدلون على أن المقصود بالقتال رد العدوان على المسلمين، وليس البدء به، لأن هناك كثير من الآيات تؤكد على إن القتال كره، وإن الله اذن للمسلمين به لكونهم تعرضوا للظلم.
هناك أيضاً حديث ينسب للرسول، يقول بأنه وصف اليهود بأنهم إخوان القردة والخنازير، وهو يناديهم أثناء حصارالمسلمين لبني قريظة، ورواية أخرى من مخزون أبي هريرة، وردت في البخاري والطبري، تقول أنه مع اقتراب قيام الساعة، يقاتل المسلمون اليهود، فينطق الحجر والشجر، يقولان ياعبد الله المسلم، هذا يهودي يتوارى خلفي، تعال واقتله.
هذه بعض الأمثلة من الأحاديث الإشكالية، مما ينبغي على علماء المسلمين أن يعيدوا دراستها، في إطار عملية كبيرة تستهدف تنزيه الإسلام ونبيه مما ألصقه بهما الوضّاعون على مر التاريخ، وبذلك نتلافى الكثير مما يوجه للمسلمين من نقد، سواء أكان موضوعياً مهذباً أو ساخراً مسيئاً.

[email protected]