ماذا بعد قمة مكة الإستثنائية لمنظمة التعاون الإسلامي، مالذي تحقق بعد اللقاء التاريخي بين العاهل السعودي، والرئيس الإيراني، أي تأثير تركته تلك الحفاوة الرسمية التي قوبل بها محمود أحمدي نجاد، وهل ولدت مقدمات اتفاق بشأن سوريا؟
أسئلة تصعب الإجابة عليها لأنها رهن بساحة الصراع على الأرض السورية، وما تفرزه من توافقات لاحقة.
أحد الجوانب الإيجابية فيما خرج به البيان الختامي لمؤتمر مكّة، يتمثل فيما ورد تحت بند: قضايا الإصلاح، بالنص على quot; اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتجنب إذكاء الفتن والنعرات بين الطوائف الاسلامية، وأن تسعى الدول في هذا الإطار الى أن يكون دورها اصلاح ذات البين والسعي الى وحدة الشعوب والوحدة الوطنية والمساواة بين ابناء الامة الواحدة بدلا من ان يكون مدعاة للفرقة والتناحر، ومكافحة الفساد وحماية حقوق الانسان ..quot; بالإضافة الى ذلك فقد دعا البيان الى:quot; التصدي للتطرف المتستر بالدين والمذهب وعدم تكفير أتباع المذاهب الاسلامية وتعميق الحوار بينهم وتعزيز الإعتدال والوسطية والتسامح، ورفض أشكال الغلو والتطرف والإنغلاق، كافة، والتصدي لكل ما يبث ويروج للفكر المنحرف، بكل الوسائل المتاحة quot;، ولأجل ذلك فقد دعا البيان الى: quot; تطوير المناهج بما يرسخ القيم الإسلامية الأصيلة في مجالات التفاهم والتسامح والحوار والتعددية، ومد جسور التواصل بين أبناء الامة الإسلامية الواحدة ..quot;. كما أكد البيان على : quot; إدانة الارهاب بكل اشكاله وصوره ورفض أي مبرر او مسوغ له.. ويشدد على ضرورة محاربة الممارسات الإرهابية كافة، وجميع أشكال دعمها وتمويلها والتحريض عليها .. quot;.
كل هذه التوجهات لم تأت من فراغ وهي تتضمن تشخيصاً لاختلال فادح في المنظومة الاجتماعية لعدد من الدول الإسلامية، وتباطؤ في معالجته أو إهمال، أو ربما انعدام رغبة، قاد أخيراً الى أزمات وكوارث تستوجب الإصلاح الجاد والسريع، فعندما نقول بأن علينا ان نتخذ الاجراءات الكفيلة لمنع الفتن والنعرات الطائفية، فمعنى ذلك إننا تأخرنا بمعالجة هذه الاعراض من قبل، أو إننا تسامحنا مع مثيريها. كما ان الإشارة الى إصلاح ذات البين بدلاً عن الفرقة والتناحر، في سياق حث الدول الأعضاء على ممارسة دورها، يدل على إن بعض الدول ما كانت ترجو الإصلاح وإنما نقيضه.
لقد مر زمن طويل، كان المتطرفون المتسترون بالدين، يعلو صوتهم في المحافل والمساجد، دون ان يردعهم أحد، وما زالوا، بذروا دعوات الشر وحصدوا الآلاف من الأرواح البريئة في بلدان عدة، وأعطبوا عقول شباب، وأمعنوا في ترسيخ قواعد اضطهاد النساء. لقد لبس الإرهاب لبوس الجهاد والمقاومة، وتوفر له الغطاء الشرعي من فتاوى متعددة، ولسنوات طويلة، فهل من السهل طي كل تلك الصفحات البغيضة؟ هل تتوفرالإرادة للإصلاح حقاً، وبصرف النظر عن المصالح السياسية؟
ثم كيف سيتم تطبيق كل ما ورد أعلاه في وضع سوريا المنفتح على كل الجبهات، الطائفية والقومية والعشائرية؟ كيف السبيل الى لجم الأحقاد المتفجرة؟
إن أهم ما جاء في البيان، هو التأكيد على نبذ تكفير أتباع المذاهب الاسلامية، وتعميق الحوار بينهم، وهذا ما ستساعد عليه دعوة العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز الى تأسيس مركز للحوار بين المذاهب، يتخذ من الرياض مقرا له. والدعوة للحوار ليست جديدة، فقد بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر بمبادرة من فقهاء متنورين من أمثال جمال الدين الحسيني السيد آبادي (الأفغاني)، ومفتي الديار المصرية في العشرينيات الشيخ محمد عبده، وفقهاء من اليمن والهند ومصر، رجال ابتغوا الإصلاح، ما كانوا طلاب مصالح، ولا طامحين الى مجد سوى رضا الله والوئام بين المسلمين. ان الحوار الايجابي مقدمة للتقارب بين معتنقي المذاهب المختلفة، وإذ نتحدث عن حال المسلمين في حاضرنا، فان مما يدعو للأسف إن معظم فقهائنا قد سجلوا حالة تراجع بيّنة في قدرتهم على الحوار وإدارة الخلافات فيما بينهم، مقارنة بالرواد الأوائل من العلماء في كل من مصر وإيران ولبنان والعراق، الذين أثمر تعاونهم البنّاء عن تأسيس quot;دار التقريب بين المذاهبquot; بالقاهرة، في العام 1946. وحسب رئيس تحرير مجلة الكلمة السعودية، زكي ميلاد، فان quot; تجربة هذه الدار قد ارتبطت بمجموعة من العلماء المصريين، منهم أربعة تعاقبوا على مشيخة الأزهر الشريف وهم : محمد مصطفى المراغي، مصطفى عبد الرازق،عبد المجيد سليم ، محمود شلتوت. بالإضافة الى الشيوخ: عبد العزيز عيسى،حسن البنا، محمد ابو زهرة، أحمد حسن الباقوري، محمد الغزالي، محمد عبد اللطيف دراز، عبد الوهاب خلاف، علي الخفيف، محمد محمد المدني،ومحمد علي علوبة باشا، ومن إيران محمد تقي القمي، أما من لبنان فكان السيد عبد الحسين شرف الدين، والشيخين حبيب آل ابراهيم وجواد مغنية، ومن العراق محمد حسين كاشف الغطاء، وأمين الحسيني من فلسطينquot;. وينبه ميلاد الى ان تلك التجربة استمرت حاضرة وفاعلة حتى مطلع السبعينيات كحدث quot; يؤرخ له في ساحة الفكر الاسلامي المعاصر من جهة تطور العلاقات بين المذاهب الاسلاميةquot; وان عطاءها الديني والاخلاقي والعلمي، المتمثل في مجلة (رسالة الاسلام)، لسان حال دار التقريب، يعتبر من quot; ألمع وأثمن عطاءات الفكر الاسلاميquot;.
هناك من يرى بان العودة للتاريخ غير مجدية في تقديم الحلول لمشاكلنا الحالية، لكني اعتقد بما ان الخلاف المذهبي قائم اساسا على وقائع وروايات مختلفة تعود الى ايام الخلافة الراشدة، فاننا كي نتحاور بهدف الاقتراب من بعضنا البعض ولو في الحد الادنى، لابد لنا من دراسة تجربة دار التقريب، وما دار بين علمائها من أدب الحوار الذي هو بلا شك اكثر رقياً من حيث اللغة والاسلوب والاستنتاجات، من لغتنا الحالية المشحونة بعوامل شتى افرزتها الصراعات والحروب وفتاوى الارهاب. غير ان هذا لا يعني ان الاجواء التي سبقت تأسيس دار التقريب كانت صافية، ففي دراسة للباحث الايراني محمد علي آذر شب، عن نشأة الدار، يشير الى ان سنوات الاربعينيات شهدت توترا في العلاقة بين المملكة العربية السعودية وايران، بسبب قضية الحاج الايراني أبو طالب اليزدي، ما ادى الى انقطاع الايرانيين عن الحج لسنوات عدة، كما لم يكن لدى المسلمين بشكل عام معرفة بحقيقة الفكر الشيعي، وهذا ما استنهض همّة عالم ايراني ليشد الرحال الى مصر ويلتقي بشيخ الازهر محمد المراغي الكبير، ويبحث معه كيفية معالجة اوجه الصراع بين اهل السنة والشيعة، وتلافي ما انتشر من شبهات وأعراض عدم ثقة بينهم، وقد بذل الشيخ المراغي جهودا كبيرة لإنجاح مهمة ضيفه، بان عرّفة على جمع من العلماء، منهم الشيخ مصطفى عبد الرازق، والشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد محمد المدني، والشيخ محمد علي علوبه باشا، ثم اختار الشيخ القمي جمعا آخر من الشيوخ، وهم حسن البنا وعبد العزيز عيسى، وعلي المؤيد من اليمن والسيد الآلوسي من العراق، وهو نجل صاحب تفسير روح المعاني. ومن هذا الجمع تشكلت النواة الاولى لجماعة التقريب، وأقامت هذه الجماعة مؤسسة دار التقريب، متخذة من بيت الشيخ القمي المتواضع مقرا لاعمالها. وفي تأكيده على النهج الحيوي الذي اعتمده القمّي في التقريب، يضيف آذر شب، نقلا عن الدكتورعبد الكريم بي آزار شيرازي الذي اجرى لقاءً معه، سرد فيه ذكرياته عن تأسيس الدار، ومما قاله القمّي quot; اخترت من بين أعضاء الجماعة شخصاًّ معروفا بتعصّبه لمذهبه ومعارضا لأية فكرة تقريب مع الشيعة. حين علم الشيخ المراغي بذلك أرسل اليّ وسألني مندهشا: لماذا اخترت هذا الرجل؟ قلت له: أنا اخترته على علم بتعصّبه، لاننا نريد في الجماعة شخصا يطرح الإعتراضات، فان كانت حقا أخذنا بها وصححنا مسيرنا، وإن كانت مجرّد شبهات فاننا نتصدّى للاجابة عليها بشكل غير مباشر قبل أن تنتشر بين الناس. انشرحت أسارير الرجل حين سمع جوابي، وقال والفرح يغمره: أبارك لك هذا التفكير وهذا الانفتاح. وأنت بهذا الخصائص سوف تنجح في دعوتك حتماquot;.
إن أهم ما يمكن ان تنهض به جهود التقريب، هو نشر النتاجات الفكرية الرصينة التي تعبر عن المضامين الحقيقية لفقه المذاهب، وبما القائمين على دار التقريب كانوا من المتميزين علما وادبا، ومتحلين بدرجات عالية من الثقة بالنفس، فقد بادر الشيخ عبد المجيد سليم - حسب ماقاله آذر شب - الى إدخال تفسير quot;مجمع البيان في تفسير علوم القرآن- تاليف أمين الدين الطبرسيquot;، الى ساحة العالم الاسلامي، وهذا الكتاب من المراجع المهمة لدى الشيعة، واضاف الباحث: quot; كان الشيخ سليم قد اطلع على هذا التفسير، ... فكتب الى دار التقريب رسالة يشيد به ويستحث الجماعة على طباعته، وكتب في مقدمته : هو كتاب جليل الشأن غزير العلم كثير الفوائد، حسن الترتيب، لا أحسبني مبالغاً اذا قلت إنه في مقدمة كتب التفسير التي تعد مراجع لعلومه وبحوثه.
وهذا الحثّ دفع الشيخ محمود شلتوت أن يطالعه بامعان، فشُغف به حبا، وولع به ولعا يتضح من المقدمة التاريخية التي دوّنها لهذا التفسير. وعلى مدى أعوام طبع هذا التفسير أفضل طبعة تتصدرها رسالة الشيخ سليم ومقدمة الشيخ شلتوت quot;.
بالاضافة الى ذلك فقد كتب وزير الاوقاف المصري، الشيخ أحمد حسن الباقوري، مقدمة لكتابquot; المختصر النافع في فقه الإمامية quot; للمحقق الحلّي، وطبع على نفقة الوزارة.
إن أكثر ما يعرقل مهمة التقريب، هو الاختلاف في الاحاديث النبوية، لذلك فقد اضطلع الشيخان، شلتوت والقمّي quot; بتنفيذ مشروع يقضي بجمع احاديث السنة والشيعة في الموضوعات المختلفة
وهو عمل تقريبي هام يوفّر للباحثين سبل التحقيق، ويوضّح ما بين الفريقين من تقارب في السنّة بعد اتفاقهما الكامل على كتاب اللّه تعالى. كان المشرف على تنفيذ المشروع الشيخ محمد محمد المدني، وبعد وفاته (رحمه الله) توقّف quot; . وبعد ذلك quot; إجتمع عدد من تلاميذ المرحوم الشيخ شلتوت الذين تربّوا تربية تقريبية على يديه، ليواصلوا هذه الاطروحة quot; ( حسب شيرازي)quot;. ومن الجدير بالذكر ان الشيخ شلتوت هو صاحب الفتوى الشهيرة في الخمسينيات، بجواز التعبد بالمذهب الجعفري. كما أخذ قانون الاحوال الشخصية المصري بما ذهب اليه الفقه الجعفري بشأن الطلاق.
وإذا كان الحوار بين المذاهب قد اعتبر ضرورة في الاربعينيات، فانه أشدّ ضرورة في حاضرنا المأزوم بالإعلام الطائفي وفيضان القنوات الفضائية التحريضية. نحتاج الى حوار جاد يديره علماء مشهود لهم بالاستقلالية والاستقامة، والتجرد من الولاءات السياسية، وان تدعمه الحكومات بشكل اساسي بالسيطرة على الدعاة في المساجد ومعاقبة كل من يحرض منهم على الاحتراب الطائفي، وان تراقب حدودها للقبض على الارهابيين من دعاة الجهاد العابر للبلدان، ورصد المواقع التكفيرية، على شبكة المعلومات. وباعتقادي فان الحوار بين المذاهب، بعد ان اكتسب اهتمام العاهل السعودي يمكن ان يؤدي الى نتائج جيدة، بخاصة اذا اشتمل على التوجهات التالية:
أولاً- الابتعاد عن مناقشة مسالة الافضلية بين الخلفاء الراشدين، وما يرتبط بها من روايات اشكالية، لانها لن تفيد حاضر المسلمين بشيئ.
ثانياً- التوصل الى اتفاق بشأن التوقف عن الاساءة الى الرموز المعتبرة لدى كل من الشيعة والسنة، وكذلك اطلاق الاوصاف التي تثير الخصومة.
ثالثاً- الكفّ عن ذكر بعض زوجات النبي (ص) بسوء، مهما كانت اسانيد الروايات التي تدعو لذلك.
رابعاً- لا ينبغي الانشغال بحديث الفرقة الناجية، الذي يتمسك به كل طرف، لانه ان صح، مرحّل الى الحياة الاخرى، حيث ينظر الله بامر كل الفرق.
خامساً- اعادة الحياة الى المشروع الذي بدأه الشيخان شلتوت والقمي في جمع الاحاديث المختلفة لدى السنة والشيعة، ودراستها، بهدف إحلال التفاهم، او حد ادنى من التقارب بشأنها، والتركيز على ما يتعلق بالمعاملات والاحكام ، منها.
سادسا- نقل الحوار في مراحل لاحقة الى طلبة العلوم الدينية، بخاصة في كل من العراق والسعودية وايران، كي لا يتخرج دعاة او علماء ذوي ثقافة محدودة بمذهب معين.
سابعاً- ان لا يتحدد الحوار باقوال الاقدمين من أئمة المذاهب وتابعيهم المقربين، وانما يسترشد بها في ضوء الواقع وضروراته ومتطلباته، لانه إذا اعتبرت اقوال القدماء، على رفعة قدرهم التاريخي، خطوطاً حمراء، فلا داعي ولا جدوى من الحوار.
هذه بعض النقاط على سبيل المثال وليس الحصر.
لقد مرت سنين طويلة منذ تاريخ انعقاد القمة الاسلامية الثالثة في الطائف في العام 1981، التي جمدت عضوية افغانستان، واستنكرت اتفاقية السلام بين مصر واسرائيل، وبينها وبين قمة مكة الأخيرة، جرت أنهار ساخنة من الحروب، وجفّت موارد للمودة بين المسلمين، وتنامت أحزاب الاسلام السياسي، وانتشرت بذور الارهاب في كل مكان، لتنبت رؤوسا لا تسمع ولا ترى ولا تعقل، وما زلنا نعيش هواجس تهديدها، فلتكن دعوة العاهل السعودي إيذانا ببدء الجهود الحثيثة للقضاء عليها، عبر حوار يتوصل الى دحر منظومتها اللافكرية.
[email protected]