استوقفتني عبارةٌ قالتها أصالة نصري، في لقاء مع طوني خليفة، في برنامج laquo;زمن الإخوانraquo; حين سألها عن اتهامها بالطائفية، إذ قالت إنها من سنوات قليلة، فقط، عرفت بطائفتها، وأنَّ أصدقاءها كانوا يظنونها مسيحية...

وما ينطبق على أصالة يشترك فيه كثير من العرب، وأهل المنطقة من غيرهم، ليس بالضرورة، حرفيا، ولكن بما يدل على أن الانتماء الطائفي لم يكن محركا سياسيا لهم، ولا حتى الدين كان مصدرا للآراء السياسية، حتى في لبنان الذي أُسس نظامُه السياسي على الطائفية، إنما تغذت هذه الطائفية من الصراعات السياسية.

فمن المعروف أن المنطقة العربية، شهدت في فترة النضال ضد الاستعمار، وفيما بعد (الاستقلال) نشوءَ أحزاب إيديولوجية، أو قومية، أو وطنية، وكل هذه فوق الانتماء الطائفي، شيوعية، كانت، أم بعثية، أم عروبية، أو حتى على مستوى الوطن الواحد.

وأما الأحزاب المرتكزة إلى مرجعيات دينية فكانت تنادي بــــــlaquo;مشروع الأمةraquo; الذي ينضوي تحته كلُّ القوميات والعرقيات والطوائف، والمذاهب.

كانت هذه الانتماءات الأرحب، أمميةً، أو قوميةً، أو وطنيةً، تجاوبا مع معطيات سياسية، أو فكرية، عالمية، أو عربية، فقد راجت الأفكارُ الماركسية، ثم الديمقراطية الغربية الليبرالية، كما كانت الأحزاب القومية العربية ردَّ فعل على أحزاب طورانية تركية، وكان انفراطُ عقد الدولة العثمانية، ووقوعُ كثيرٍ من البلدان العربية تحت الاستعمار المباشر، أو غير المباشر، من الأسباب التي أيقظت النزعاتِ القومية والوطنية التي لم يكن له صوت يُسمع في ظل الرابطة الإسلامية التي كانت تتخذها الدولة العثمانية..

تناقض المواقف السياسية في الطائفة الواحدة:
ولا نزال نرى في الطائفة الواحدة، والإثنية الواحدة تبايناتٍ تصل إلى حد التناقض، وممكن أن نمثل على ذلك ببعض الأحزاب اللبنانية، على الطائفية، والأحزاب الكردية، في العراق، مثالا، على البعد الإثني...

ففي لبنان نجد المسيحيين الموارنة موزعين بين اتجاهين سياسيين متناقضين، في لحظة تاريخية حاسمة تمر بها المنطقة، والمخاوف التي تواجه (الأقليات)..فالقوات اللبنانية، بزعامة سمير جعجع ضد نظام الأسد، ومع الثورة عليه؛ لإنهائه، والتيار الوطني الحر، بزعامة ميشال عون، مع النظام حتى آخر رمق..وقد كان الأخير، في زمن مضى عدوا لدودا لنظام الأسد.

وكذلك الدروز يشهدون انقساما واضحا بين أتباع وليد جنبلاط المناهض للنظام في سورية، وأتباع وئام وهاب المناصر للأسد.

وفي العراق نجد مسعود البرازاني، وحزبه laquo;الديمقراطي الكردستانيraquo; مع الثورة ومائلا إلى تركيا، وحزب جلال الطالبانيraquo; مع رئيس الوزراء، نور المالكي، وأمْيَل إلى إيران، في مواجهة الثورة في سورية...

وهذا الانقسام حول أمر كالتغيير العميق الذي يطال سورية، والمنطقة بأسرها، مؤشرٌ لا يمكن الاستهانة به؛ ذلك أن الكل يدرك حجم الانعكاسات على التوازنات، والوضع الإقليمي الجديد الذي سيتشكل....فلو كان الانتماء الطائفي، و(قريب منه العرقي)، هو الحاسم وحده، لما تأخر أثرُه في هذا المنعطف الخطر.

والحاصل أن عامة الناس ليسوا مُؤطَّرين تنظيميا، ولا يمثل الدينُ، لهم مرجعية سياسية، وبعض الناس من أصحاب الفكر اللاديني، لا يكاد يمثل الدينُ لهم مرجعيةً على الإطلاق.
والطائفة، كالسنة، أو الشيعة، مثلا تنطوي على انتماء ديني، في الأساس، فما الذي حدث حتى صرنا نسمع علمانيين طائفيين، وفنانين، ومطربين، طائفيين؟!

من الواضح أن الكل صار يستشعر الحاجة إلى الغطاء الطائفي، بعد أن أصبحت الطائفية أداة مهمة من أداوت الصراع، ومبعثا من بواعثه.

فهل هذا الانبعاث الطائفي ذاتي، أم سياسي توظيفي؟

بعد أن تراجعت الأحزابُ غير الدينية، من ماركسية، يسارية، وديمقراطية علمانية، والقومية العربية، والبعثية؛ لأسباب معروفة، من الإخفاقات الخارجية والداخلية، تقدمت الأحزابُ الإسلامية؛ لمَلْء الفراغ، وقد يقال إن هذا الانتشار للفكر الديني يمهد للطائفية، ويغذيها.

بالطبع قد يكون للمد الديني أثرٌ، أو إسهام، في تغذية روافد الطائفية، حين ينحو مناحي تاريخية، مذهبية، ولكن هذا التأثير هو تأثير سياسي، في حُمَّى السعي للسلطة السياسية، أو الاجتماعية، فالمناقشات الضيقة التي تخاض من قبل متحمسين ومتشددين في هذا المذهب، أو ذاك ما كان لها أن تطغى على المجتمع، لو أن الصراعات السياسية ظلت تدور بأدوات اجتماعية، أو اقتصادية، صريحة، مثلا.

لكن فشل الدولة القومية، وما سميت بالدولة الوطنية، ما بعد الاستعمار، أدى إلى تراجع الهموم المُوِّحدة؛ فاستعيد الخطاب الطائفي؛ ليظل الصراع سياسيا، في الأغلب، ولكنه أكثر ضيقا، وأكثر تخفيا؛ فأين العرب اليوم، من أيام عبد الناصر والخطاب القومي؟!

ثم أدى فشلُ، أو تعثرُ الصيغ للدولة الحقيقية الجامعة إلى تنبيه الانتماءاتِ الأضيق؛ فأصبحت الطائفةُ ملاذا للإنسان العادي؛ لنيل الاعتراف والتقدير به، ( وهذا بعدٌ معنوي اجتماعي) وللحفاظ على مكتسباته، ومصالحه، (وهذا بعدٌ اقتصادي) ومثارا، أو أداة للسياسي ولبعض النظم التي أحست بافتقادها الشرعية الشعبية.

وفي هذا السياق يأتي توصيفُ المذيعة السورية، علا عباس، للنظام الذي أعلنت انشقاقها عنه بأنه: laquo;يحاول إيقاظ وحش الطائفيةraquo; لدى الطائفة العلوية. وقولها إن laquo;الشعب السوري بقي حوالي 40 عاما ينتظر اكتمال مواطنيته، التي كان النظام، ولا يزال حريصا على سلبها منه، لمنع انتقالنا كشعب إلى دولة الحرياتraquo;. ولفتت إلى أن 40 خريفا انقضت والنظام يتغول في شرخ إنسانيتنا، ويتفنن في رصد الخلل فينا، وها هو اليوم يعيد توليد آليات وأساليب استبداده، مستخدما الجزء المضلل من الشعب السوري، ومستعملا إياه كحاضنة أساسية لتنفيذها، مستغلا العوامل النفسية والاجتماعية لإيقاظ الوحش الطائفي أو الأقلوي من ثباتهraquo;raquo;.

ولا يزال الناسُ يُكْبِرون تلك المواقف الجامعة التي رفضت التماهي مع المشاريع الاستعمارية، ومنها رفض الشيخ صالح العلي، قائد الثورة السورية، ضد الفرنسيين، في جبال اللاذقية العرض الفرنسي بدولة علوية.

بطبيعة الحال لا يمكن إنكار البعد الطائفي، وكمونه، والترسبات التاريخية؛ الناتجة عن الصراعات الطائفية، والاضطهاد الذي كان يزيد في فترات ضعف السلطة المركزية، والتهميش والحرمان، وجراء عوامل التعصب، والجهل، وانغلاق البيئات السكانية، وسواها، ولكن من المؤكد أن العوامل الخارجية، (كما كان من فرنسا إبان انتدابها على سورية) والبنية السياسية للدولة، والصراعات السياسية هي الأكثر توظيفا للطائفية، والأوضح تحريضا بها، وعليها.

يقول نيكولاس فان دام في كتابه:laquo; الصراع على السلطة في سورياraquo; :laquo; أما بشأن تأثير الصراع على السلطة في سوريا فإن الطائفية كانت محصورة، فيما مضى، على صفوة السياسيين البعثيين وجهاز حزبهم، إلا أنه في النصف الثاني من السبعينات احتوت هذه الظاهرة قطاعات أوسع، ونتيجة للاغتيالات الطائفية وبعض عوامل أخرى، ومن جراء التأثر بالحرب الأهلية الطائفية التي تفشت في لبنان، منذ 1975م فإن الطائفية، فقط، في جهاز حزب البعث والقوات المسلحة، والهيئات الأمنية الأخرى، ولكنها أثرت في الجزء الأكبر من المجتمع السوري. بالتالي فإن القوات المسلحة أصبحت مهددة بالانقسام، طائفيا، إلى درجة أكبر مما كانت عليه، فيما قبل، وأصبحت البلاد في خطر الانزلاق إلى أهوال الحرب الأهليةraquo;.

فالطائفية، والانغلاق الطائفي حالة سلبية لا تقوم في الأوقات الطبيعية، حيث الثقافة التي تحترم المواطن، بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى، وهي انتكاسةٌ إلى الوراء، إلى مراحل الضعف، والخوف..والطائفية حين تُستغل سياسيا تصبح ابتزازا رخيصا للحصول على السلطة، أو الاحتفاظ بها، وكثير ما يكون أتباعُ الطائفة، أنفسهم، من أبرز ضحايا زعمائهم من الطائفيين السياسيين.
[email protected].