يبدو الصراع في سورية، أو عليها، في مرحلة التوازن، فقد حسمت (ولا حسمَ نهائيا في السياسة). الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية مواقفها، وصارت الأزمة أكثر إقلاقا بعد التصلب الروسي، ثم الصيني، والفيتو المزدوج، ضد مشروع القرار العربي الغربي الذي جرى تخفيفه إلى أبعد مدى ممكن؛ لعل توافقا دوليا ينشأ عليه. فهل غرَّتْ روسيا نفسَها، أم أنها بالغت في التقليل من قدرات الولايات المتحدة؟
في ظل تراجعاتها، وانسحاباتها من العراق، ثم محاولة انسحابها من أفغانستان، بعد أن فشلت مراهنتها على حكومة كرازي؛ فعملت على فتح قنوات التفاوض مع حركة طالبان. وبعد تخفيض واشنطن لميزانية الدفاع؛ جراء الأزمة المالية التي كان من أسبابها المهمة نفقاتها العسكرية، في حربيها على أفغانستان والعراق.

وهنا سؤال ينبثق، في ظل هذا القتل الباهظ الكلفة الذي يحصد أرواح السوريين، ويستفز المنطقة، ويؤذي ضميرها: هل هو صراع القوة الصريح؟ وأين من هذا الصراع القيم؟

ثمة من يرى في تصلب موسكو استغلالا للأزمة السورية، لإعادة روسيا إلى الحلبة الدولية كلاعب محترم، وفاعل، في ظل التراجع الأمريكي، والضعف الأوروبي الغربي، عموما، اقتصاديا، وهو ما يؤثر في قرارات الدول، ويجعلها أكثر حذرا.

ودون الدخول في الأبعاد الاستراتيجية لهذا الطموح، إن تم تبنيه، من روسيا، فعليا، وجديا، فإن الرجوع إلى مكانة الاتحاد السوفيتي، في فترة العالم ثنائي القطبية لا يتحقق من خلال أزمة إقليمية تحاول فيها روسيا في أحسن الأحوال الاحتفاظ ببعض المصالح الاقتصادية، وبعض أوجه التعاون الاستراتيجي العسكري، وإنما لا بد له من توفر مقومات داخلية روسية، وظروف عالمية تسمح به، فقد تتغير مواقع الدول في العالم؛ نتيجة حروب كبرى، ترفع دولا وتضع أخرى، وهذا هو الأغلب، من الاحتمال الثاني للتغيير، وهو الذي يأتي تدريجيا، من خلال عملية التطور التدريجي للقوى، لكن هذا الأخير يأخذ وقتا، ويحتاج إلى تراكم مستمر في صعود تلك القوة، بتزامن مع هبوط الدولة، أو الدول المقابلة.

فهل روسيا في صعود مستمر، وأمريكا في انحدار مماثل؟
الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب تحتاج إلى اطراد الضعف الأمريكي واستمرار التطور في القوة الروسية زمنا كافيا، وليس في حادث هنا، أو انتكاسة هناك.
صحيح أن أمريكا تراجعت، وتقدمت دول، على صعيد المنافسة الاقتصادية، كالصين، مثلا، ولكن قد يكون من المهم أن نعرف: بالقياس إلى ماذا يوصف هذا التراجع؟

هل تراجع بالقياس إلى النفوذ الروسي عالميا، وفي منطقة الشرق الأوسط؟ أم هو تراجع عن تمدد الإمبراطورية الأمريكية التي أرادته؟

فقد اندحر الاتحاد السوفيتي من أفغانستان؛ لتحل محله، فيما بعد، حكومة طالبان التي تربى قادتُها في كنف باكستان، وظلوا على صلات حتى اليوم، كما تشير التقارير مع الجيش والمخابرات الباكستانية، وبرغم أن علاقات إسلام أباد بواشنطن تمر بنوع من التأزم، وتراجع الثقة، إلا أن باكستان ليست في وارد الانحياز إلى روسيا، مثلا.

وواشنطن، وإن تفاوضت مع طالبان، فإنها ستسعى، في أقل الطموحات، إلى تحييد هذه الحركة الدينية المحلية التوجهات، والمتواضعة الإمكانات، فلا تكون أداة لدولة منافسة فعلا لأمريكا، كالصين، لو أرادت، أو تمكنت، أو غيرها.

وأما انسحاب أميركا من العراق فلم تفعله إلا بعد أن حققت مكاسب من النفوذ لم يكن لها قبل غزوها له، فالعراق، أيام صدام، ولا سيما في آخر عهده، لم يكن مشرع الأبواب أمام النفوذ الأمريكي، صحيح أنها لم تحقق كامل طموحها، وبدا كما لو أنها اضطرت إلى تقليص نفوذها العسكري إلى الحد الذي أصرت عليه حكومة المالكي، إلا أن وجودها السياسي، في العراق، وقدرتها على اصطناع توازن القوى، محليا، بين المكونات العراقية المتنافسة على السلطة والموارد، وإقليميا: تركيا مقابل إيران لا تزال هذه القدرة ملحوظة، برغم الأزمات والاحتقانات...

والملحوظ بوضوح أن أمريكا تتقدم وتبادر على نطاق واسع عالميا، وفي منطقتنا، وروسيا، ولا سيما، في الأزمة السورية تَظْهَر بالسلب، والتعطيل المساوِم، وليس بالمبادرة الأولى.

وتحتاج روسيا إلى غير القدرة على laquo;الفيتوraquo; لكي تعيد تشكيل الموقف الدولي، تحتاج إلى فهم اللحظة التاريخية، ومواكبتها، لا الوقوف في وجهها بعناد.

وإني أرى، ومعي غيري، أن واشنطن تفهمت هذه اللحظة العربية، أكثر مما صنعتها، وقد حاولتْ حتى الرمق الأخير، الدفاع عن بشار الأسد، واستبقائه؛( لعدم توفر بديل مضمون بعده)، حين وصفته وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون،ـ علنا، بالإصلاحي، وحين تباطأ الرئيس، باراك أوباما، في الدعوة إلى تنحي الأسد. وكان نظام الأسد منذ الوالد ينصاع للمشاريع الأمريكية الحيوية، وكذا الولد.

فروسيا اليوم تختار البقاء في الماضي، وتُعرِّض نفسَها لمزيد من التجاوز، ولا تعمل على توسيع نفوذها في هذه المنطقة المهمة من العالم، لا على المستوى الرسمي، وقد عاندت الموقف العربي العام، ولا على المستوى الشعبي السوري والعربي والإسلامي، وقد تخندقت في نفس الخندق القاتل والمجرم الذي تخندق فيه الأسدُ، وقواتُه.

فهذا الركوب العنيد لهذا الحصان الخاسر ليس كافيا؛ لكي يعيدها إلى مصافِّ الدولة المنافسة عالميا. فضلا عن كونها_ وهذا لا يقل أهمية_ مجروحا في ديمقراطيتها، وقد يأتيها ربيعُها، وربما هلَّتْ بوادرُه، وهذا ما يضعف موقفَها أمام واشنطن ودول الغرب، في الوقت الذي يواجه ميدفيدف وبوتين مظاهرات حاشدة تطالب برحيلهما.

وعطفا على السؤال السابق، حول ثنائية القوة والقيم؛ فإن روسيا، في موقفها الأخير من سورية ليست متمكنة أو متفوقة في أي منهما، بالرغم من كون أمريكا، أيضا ليست ناصعة البياض من حيث العدالةُ الدولية، وهي السباقة إلى الفيتو المنحاز، في الصراع العربي الإسرائيلي، إلا أن مساندة واشنطن لظاهرة للتحول الديمقراطي العربي، ضمن ضوابطها ورؤيتها الاستراتيجية، تجعل لها في هذا الجانب الراهن حيزا من التأييد العالمي، والتوافق بين مصالحها وقيمها.

وأما روسيا فلا يفيدها، كثيرا، ادعاءُ الحرص على الشعب السوري، وحقه في إنجاز إصلاحاته بنفسه؛ ذلك أن هذه الإصلاحات لا يُؤتمَن على تنفيذها نظامٌ كنظام الأسد، ولا سيما بعد أن كشف عن وجهه الأبشع، وأسقط كلَّ الأقنعة. وكما قيل، فهي كما تحاول إدانة التدخل الدولي، فإنها بانحيازها إلى طرف من أطراف الأزمة، وهو الطرف الأخطر، والمسبِّب الأول في التأزم، والذي طالما أجهض المبادرات، أو دوَّخها، إنما ترمي غيرَها بِدَائِها، وتَنْسَلّ.
[email protected].