يخضع الدعم الروسي شبه المطلق للنظام السوري لقراءات عدة، بينها قواسم مشتركة.
وأول ما يكاد يكون عليه إجماع هو أن روسيا بوتين لها مصالح كبرى في سورية، ما بين قاعدة عسكرية بحرية، وسوق سلاح، والمركز الإستراتيجي السوري في المنطقة، بعلاقاته المتشعبة.
والاعتبار الأساسي الثاني هو ما تفرضه العلاقات والمصالح الروسية مع النظام الإيراني، الذي يتخذ من سورية الأسد قاعدة مركزية له في المنطقة، وكل إضعاف له يرتد سلبا على الوضع الإيراني.
وأما الاعتبار أو الحساب المهم الآخر، فهو، كما يقول المحلل الفرنسي أدلر، اعتقاد الروس بان الأزمة السورية تجسيد للعبة quot; لا غالب ولا مغلوبquot;، برغم استمرار تآمل النظام الأسدي من يوم ليوم.
والاعتبار الآخر في التقييم هي السياسة الدولية التي ينتهجها بوتين، لاسيما منذ التحضير لولايته الجديدة، وهي خلق المشاكل للمصالح الأميركية خاصة، وللأطلسي عموما، خصوصا منذ أن برز الشروع الأميركي لنشر شبكة الدروع المضادة للصواريخ برغم أنها موجهة ضد إيران لا ضد روسيا. وقي حيته راح بوتين يستخدم خطابا هو أقرب للخطاب السوفيتي خلال الحرب الباردة، متهما الولايات المتحدة بتهديد الأمن القومي الروسي، ونافخا في بوق الغرور القومي الروسي وفي مشاعر الحنين للعهد السوفيتي، الذي اعتبر بوتين انهياره أكبر كارثة في تاريخ روسيا. ويبدو أن روسيا تسعى لخلق محور شرق ndash; وسطي ودولي في مقابل واشنطن والغرب وحلفائهما، بما فيه مضايقة وتخويف تركيا التي هي عضو في الأطلسي. ومعلوم مدى العلاقة التركية المباشرة بالأزمة السورية. وقد حقق الروس منذ أيام نجاحا كبيرا بكسب حكومة المالكي الذي ذهب لعقد أكبر صفقة سلاح من موسكو، فضلا عن صفقات أخرى نفطية وتجارية، ربما عوضت عن الخسارة الروسية في ليبيا. ونعرف أن السلاح السوري هو روسي، وفي الأوضاع الراهنة من العقوبات على إيران وسورية فإن من غير الممكن للأسد التعويض عن خسائره من السلاح الروسي إلا عبر العراق، وبأموال العراقيين. وقد ورطت الحكومة العراقية بلدها وشعبها، تحت تأثير إيراني مباشر، بين أنياب نظام بوتين، الذي دعم سابقا، ويدعم اليوم، الأنظمة الدكتاتورية الشمولية والمتمردة على القانون الدولي، ككوريا الشمالية وإيران والنظام السوري. وهذا طريق سيكون مهلكا للعراق الذي يصفه حازم صاغية، بعد صفقة السلاح المذكورة، بما يلي: quot; العراق ضد ذاته.quot; ويصدق صاغية في التحذير من عواقب ربط العراق بالمصالح والإستراتيجية الإيرانية، وخصوصا والوضع الإيراني اليوم يعاني من صعوبات جمة، ونظام الفقيه هو الذي لعب مع سورية، أدوارا تخريبية كبرى في عراق ما يعد البعث بنشر الطائفية و احتضان المجموعات الطائفية المسلحة، والاستفادة من القاعدة لتنفيذ عمليات إرهابية متتالية في العراق. ولو كان العراق في هذه اللحظة بالذات محتاجا لهذه الدرجة من التسلح، وفيه مليونا أرملة، وعدد أكبر من اليتامى، ونسبة كبرى من سكانه فقراء أو تحت مستوى الفقر، إذن، فلماذا اختيار روسيا بوتين بالذات للتسلح؟
إن روسيا قد نجحت مؤقتا في خلق محور يدور حولها في المنطقة من إيران والأسد ولبنان حزب الله وغزة والعراق، لمضايقة المصالح الغربية ومحاربتها، ولخلق ركائز قوية لها في المنطقة. وربما يأمل الروس في استخدام علاقات إيران بطالبان لملاحقة النفوذ الأميركي في تلك المنطقة الحساسة، التي تتصل بالأوضاع الروسية. ولكن في داخل هذا المحور، الذي هو في طور التبلور النهائي، نقاط ضعف كبرى، سواء الوضع الإيراني الصعب، والعقوبات المفروضة على إيران، والمشاكل العراقية المتفاقمة، وتآكل النظام السوري.
بجانب هذه الحسابات كلها، فلعل هناك أيضا حسابا مهما آخر بالنسبة للروس، وهو الخوف من انتشار المد الإخواني والسلفي وخطر الجهاديين الإرهابيين في المنطقة إلى جمهوريات آسيا الوسطى، حيث هناك، ولاسيما في كازخستان، مشاكل اجتماعية واقتصادية كبيرة، وانتشار متزايد لدعايات الأصوليين، وبطالة واسعة بين الشباب- وهذا دون نسيان المشكلة الشيشاتية. ومما يعطي للروس بعض الحجة هو الدعم الأميركي والتركي والخليجي للإخوان المسلمين في المنطقة. وهناك معلومات متواترة عن تسلل مجموعات جهادية مسلحة ومنفصلة عن بعض لصفوف المقاتلين السوريين المعارضين، ولاسيما quot; جبهة النصرةquot; القاعدية. وهو ما يتأكد من يوم لآخر. وقد نشرت الواشنطن بوست مؤخرا تقريرا ضافيا عن الموضوع. كما أن المسؤولين الفرنسيين كشفوا عن أن بين أعضاء الخلية الإرهابية التي اكتشفت في فرنسا مؤخرا عناصر كانت تنوي الذهاب للساحة السورية باسم الجهاد. ويخاف الفرنسيون والأوروبيون الغربيون الآخرون من ذهاب أمثال هؤلاء لسورية- كما سبق وذهب أمثالهم للعراق وأفغانستان وباكستان- ليعودوا بخير إرهابية تهدد الأمن الأوروبي. والمؤسف أن قادة الجيش السوري الحر لم يتحركوا بعد لتطهير صفوفهم من المجموعات الجهادية ذات الأيديولوجيا القاعدية، وهذا سبب قوي لتردد الغرب في تسليح المعارضة السورية. وأكثر من ذلك، فإن أحد كبار ضباط هذا الجيش صرح منذ أيام بان الغرب لا يساعدهم لأنه يريد انتشار الفوضى في المنطقة للسيطرة على منابع النفط، وهو منطق النظام السوري نفسه- أي منطق المؤامرة الغربية. وقد انتقد عبد الرحمن الراشد بحزم هذه العقلية في مقاله المعنون quot; جنود أحرار وعقول مقيدةquot;.
إن رهان بوتين على إمكان عودة الاتحاد السوفيتي والمنظومة السائرة معه مبني على حسابات خاطئة. وإذا كان السعي الروسي وراء النفوذ والمصالح مبررا، فإن دعم بوتين للأنظمة الدكتاتورية الدموية سوف ينقلب في النهاية على روسيا. وبدلا من العودة لخطاب قريب من خطاب الحرب الباردة، فإن مصالح روسيا والأمن العالمي تستدعي سياسة التعاون، خصوصا وإن الغرب والشرق معا يواجهان خطر الإرهاب الإسلامي عدوهما المشترك. و الشعب الروسي، الذي يعيش 20 مليون نسمة منه تحت خط الفقر بسبب الغلاء الفاحش والفساد، يحتاج لسياسة تراعي مصالحه الحيوية، وتضمن حقوقه وحرياته الأساسية، وما تتطلبه مصالحه من سلام وانفتاح على العالم المتحضر، ونبذ السياسات القديمة، في انتهاج الاستبداد الداخلي ودعم الاستبداد الخارجي، نبذا تاما وإلى الأبد.