كنت أشاهد الرئيس الايراني أحمدي نجاد يُلقي خطابه من على منصة الأمم المتحدة، وقال كلاماً مدروساً حول العلاقات الانسانية بين شعوب الأرض، وتحدث عن الاقتصاد والسياسة والاجتماع، ودعا البشرية أن تتحاب وأن تتفق، وأنحا بالائمة على الشرور التي تتفجر هنا وهناك، إذ أنه كان يتكلم باعتباره رئيساً لآخر مؤتمر عُقد في طهران (مؤتمر عدم الانحياز)..
ثم دعا البشرية جمعاء أن تتوحد، وأن تحارب الفقر والعوز والمرض، كما دعا إلى إنهاء الحروب، إلى آخر هذه المنظومة من الأمنيات، وبصدق أقول أن الرجل حظي باحترامي لدعواته من على هذا المنبر.. ولكن قبيل أن يختتم بدقائق قال: إن كل هذا الذي دعوت إليه لا يمكن أن يتحقق للإنسانية قبل ظهور المهدي والذي سيتبعه ظهور المسيح؟؟!!..
وهنا وجدت نفسي أشعر بخيبة أمل، إذ أن كل هذه الأمنيات قد تبخرت، فأحمدي نجاد والذي يؤمن بولاية الفقيه المرتبطة أساساً بظهور المهدي المنتظر، ولأنه لم يظهر بعد فإن رئيسه خامنئي يقوم مقام المهدي في الأرض، أي أنه يحكم بالغيب إلى أن يظهر صاحب الدعوة الأصلي المهدي المنتظر؟؟!!..
وهنا أجدني أعود الى رسالة الدكتوراه التي كتبها جواد علي في ألمانيا في أواسط الثلاثينيات من القرن الماضي، وهي برمتها عن ظاهرة المهدي عند الشيعة، وقد سبق لي أن كتبت مقالة منذ عشر سنوات بهذا الصدد نُشرت في أكثر من موقع، كما نشرتها جريدة الشرق الأوسط، أجدني الآن ملزماً بإعادتها هنا في (إيلاف) كي يعرف من لم يعرف ظاهرة المهدي بعضاً مما يُسلط الضوء عليه في التراث الاسلامي.. وهناك كتاب صدر منذ عشر سنوات للكاتب الاسلامي (الشيعي) أحمد الكاتب، يؤكد فيه بأن المهدي لا وجود له، وأنه مجرد اختراع تأسست على وجوده الاثناعشرية الشيعية التي لم يكن لها وجود قبل القرن الثالث الهجري، كما يؤكد على أن الحسن العسكري الذي يفترض أنه والد المهدي لم يُنجب، وبالتالي فإن المهدي لا وجود له إلا في ذهن من يؤمنون به..
من هنا فإن أحمدي نجاد على ما يبدو يريد أن يعمم ظاهرة ولاية الفقيه على العالم أجمع.. وأستميح القراء عذراً من أن أعيد لهم المقال الذي كتبته منذ سنوات والخاص بظاهرة المهدي من منظور الاسلام السُني.. أما المهدي في المفهوم الشيعي فسوف أكتبه لاحقاً..
* * *
ثبت لي - بالتجربة العملية - ان البحث والخوض في موضوع (المهدي المنتظر) شاق الى درجة تغرق من يتناوله في خضم تلاطم أمواج عاتية. ولست في هذا البحث بصدد الكتابة عن موضوع تاريخي او فقهي يتناول ظاهرة (المهدي المنتظر) عند المذاهب الاسلامية المختلفة، إذ ان ذلك سيضعنا امام اختلافات في وجهات النظر تساجل فيها المسلمون لقرون طويلة، وما زال البعض منهم يجتر تلك السجالات والخلافات حولها!! ربّ متسائل: لماذا الخوض في مثل هذا الموضوع، ما دام الاقرار بصعوبته، لما يكتنفه من محاذير؟!
بمنتهى البساطة اجيب: كان الحديث يدور حول ذلك السعودي الذي قام باقتحام وزارة المالية في مساء احد الايام القليلة الماضية، زاعما انه (المهدي المنتظر)، وعلى اثر تبادل اطلاق الرصاص مع حراس الوزارة، لقي حتفه لاحقا laquo;بمهديraquo; آخر كان قد سبقه منذ اكثر من عقدين حينما اصطحب جهيمان قبل 23 عاما. وما بين هذين التاريخين ظهر مهديون آخرون في مناطق متعددة من آسيا وافريقيا، وآخرهم يقف الآن امام القضاة في القاهرة، بعد ان ادّعى انه المهدي وله اتباع.
وقد ظهر العشرات بل المئات ـ على امتداد التاريخ ـ وكل واحد منهم يزعم انه (المهدي المنتظر)!!
وعلى صعيد التجربة الشخصية، فقد كان لظاهرة (المهدي المنتظر) تاريخ طويل معي صاحبني منذ فجر حياتي، حيث نشأت في بيئة تحمل تراثا، يؤمن بأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها: laquo;لا تخلو الارض من قائم بحجة، إما ظاهر مشهور، أو خائف مستور، لئلا تبطل حجج الله وبيانهraquo;.
وحديث آخر يقول:
laquo;القائم المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، اشبه الناس بي خلقاً وخُلقاًraquo;.
وحديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم:
laquo;لا تقوم الساعة حتى يقوم قائم للحق منا، وذلك حين يأذن الله عز وجلّ له.. ومن تبعه نجا، ومن تخلف عنه هلك.. الله الله.. عباد الله، فأتوه ولو حَبْواً على الثلج، فإنه خليفة الله عز وجل وخليفتي..raquo;. وهناك العشرات من الاحاديث المماثلة سواء للنبي عليه السلام، او لصحابته، وقد وردت في مصادر متعددة بمقدوري ان اذكر العشرات، بل المئات منها.
فإلى جانب هذا الموروث الذي يحتل مكانة كبيرة لدى فئات كثيرة من المسلمين، هناك ظواهر لا بد من الوقوف امامها:
سعيت الى مجموعة من الفتيات سمّيْن انفسهن بـ (المهديات) مستفسرا عن فحوى هذا المسمّى! فأقسمت لي احداهن - وهي تمت لي بصلة القرابة - ان المهدي يظهر لها مخترقا الحواجز والحوائط، والأبواب، وهي تراه رأي العين مرتديا لباسا ابيض وتصفه بأوصاف نورانية، وكيف ان النور يشع من وجهه..
ولما اردت التأكد من روايتها، توجهت بالسؤال الى واحدة أخرى من (المهديات) فأكدت لي نفس الرواية، واضافت انه قد يظهر لها في حضور أناس معها ولكنهم لا يرونه، فرؤيته مقتصرة على من يريدهم هو ان يروه!! ومعظم الفتيات اللواتي تتكون منهن الجمعية هن من خريجات الجامعة.
bull;في المركز الاسلامي في مدينة لوس انجلوس، التقيت برجل فلسطيني ـ صاحب محطة بنزين ـ زعم لي انه هو (المهدي المنتظر)، وانه على اتصال بالملائكة، كما اطلعني على مراسلات يبعث بها الى قادة وحكام العالم، يطالبهم فيها باتّباع ما يصدره اليهم من أوامر باعتباره (المهدي المنتظر)، وسوف يجهر بدعوته عندما يأمره الله بذلك عما قريب.. وهذا الشخص معروف عند الجالية الاسلامية في مدينة لوس انجلوس، والبعض منهم يأخذ كلامه على محمل الجدية!!
bull;كذلك التقيت برجل كردي الأصل، كان يحدثني على انه (المهدي المنتظر) وانه بصدد الاجهار بدعوته عما قريب، وقد كان ذلك في أواسط التسعينات حينما كنت أدير اذاعة عربية تبث برامجها من مدينة لندن.
bull;لي صديق، وهو شاعر لبناني معروف كان مُقبلا على الدنيا بكل ما فيها من ملذات، وفجأة اصبح زاهدا فيها، لا يهمل فرضا، ملتزما بعبادة الله بانتظام.. ولما سألته عن سر نقطة التحول في حياته، اخبرني: انه ذهب الى العمرة ثم الى زيارة قبر الرسول في المدينة المنورة، وهناك في البقيع، حينما كان يقرأ الفاتحة على أرواح الصحابة، ظهر له المهدي، الذي اخذ بيده نحو جادة الصواب والالتزام بقواعد الايمان.. ثم اخذ يظهر له في أماكن أخرى.. فأصبح على يقين انه يلتقي بـ (المهدي المنتظر).. ولا أظن ان ذلك سر، فكل من يعرفون الشاعر طلال حيدر، صاروا على بينة مما يرويه لهم، وانا احدهم.
bull;في الاسابيع الماضية كنت في القاهرة، وكان في نيتي ان اجري حوارات صحفية، وكان من بين من كنت اطمح لمحاورتهم احد ضباط ثورة يوليو باعتباره من عرَّابي العلاقات العربية ـ الاسرائىلية، وهو حسن التهامي الذي احتل منصبا كبيرا في عصر السادات، فقيل لي: ان حسن التهامي يتحدث الى الملائكة وصار يدعو الناس الى الالتفاف حوله باعتباره (المهدي المنتظر)، ولم اتمكن من الوصول اليه لسؤاله.
بعد ان رويت هذه المواقف وغيرها.. واذا بالأخ عبد الرحمن الراشد يقترح علي كتابة موضوع اتناول فيه ظاهرة تكرار ظهور (المهدي المنتظر) على مدى العصور المختلفة، وما هي المبررات التي يستند اليها هؤلاء (المهديون المتكررون) في مختلف العصور.. وانه يريد مني انجاز هذا الموضوع خلال مدة لا تتجاوز ثلاثة او اربعة أيام!!
* * *
فبدأت الرحلة، واذا بي امام مراجع لا حصر لها ولا نهاية، تغطي مساحة كبيرة من التاريخ، وتمتد الى عصور مختلفة، اذ يبدو انه في كل حقبة زمنية في العصور الاسلامية، يظهر مهديون، او ان الناس يجمعون على مهدي يُؤمّرونه عليهم..
ولندع المراجع الشيعية جانبا لنقف امام المصادر السنية، لنجد انها حافلة بأخبار المهدي المنتظر.. فأهل السنة والجماعة يؤمنون: ان الله يؤيد دينه وعباده في آخر الزمان برجل من اهل البيت يملأ الارض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، يواطئ اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم ابيه، اي (محمد بن عبد الله)، ويؤمنون انه يولد في آخر الزمان وليس في اول الزمان، وتتزامن بداية دعوته مع نزول المسيح عليه السلام. وقد تواترت هذه الاخبار في العديد من المصادر كمسند احمد، وملاحم ابن المنادى، واربعون ابي نعيم، وفرائض السمطين، وميزان الاعتدال، والصواعق للهيثمي، وكنز العمال، وينابيع المودة، وقد ذكر ابن كثير في (النهاية) فصلا، ذكر فيه المهدي في آخر الزمان، وفيض القدير للمنياوي، وغالية المواعظ لخير الدين الآلوسي.. كما اطلعت على مقالة لناصر الدين الألباني تدور حول (المهدي المنتظر) نُشرت في مجلة التمدن الاسلامي، والكثير الكثير من غير هذه المصادر التي اشارت الى احاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيها ذكر المهدي، وكل هذه المصادر تتمحور حول حديث قد جاء بأشكال مختلفة حيث ورد في مسند احمد:
عن ابي سعيد الخدري قال: قال رسول الله:
laquo;أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس، فيملأ الارض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يقسم المال صحاحاraquo;، فقال له احدهم: فما صحاحا؟! قال: laquo;بالسويّة بين الناسraquo;، وقال: laquo;ويملأ الله قلوب امة محمد غنى ويسعهم عدلهraquo;.
وجاء في حديث آخر عنه عليه السلام:
laquo;إن المهدي من عترتي، من أهل بيتي يخرج في آخر الزمانraquo;.
وجاء أيضا:
laquo;لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤه عدلا كما مُلئت جوراraquo;.
وحديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم:
laquo;فلو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يأتيهم رجل من أهل بيتي تكون الملائكة بين يديه، ويظهر الإسلامraquo;.
وقد ورد في الموسوعة العربية الميسرة بعنوان (مهدي):
laquo;من هداه الله، يراد به رجل، يأتي آخر الزمان، يملأ الارض عدلا بعد ان مُلئت جورا.. عقيدة شيعية في اساسها تقوم على (إمام خفي) سيظهر ويرجع الى الدنيا ليتولى امورها، ثم فشت بين الأمويين والعباسيين فكرة سياسية، ولّدها الكبت والحرمان في الغالب، ثم تحولت الى مبدأ ديني.. لها صلة بفكرة القطب عند الصوفية.. أنكرها الزيديةraquo;.
وكما ذكرنا.. فقد تكررت دعوات المهدوية في مناطق متعددة، وفي حقب مختلفة، حتى اصبح لكل فرقة او طائفة، اكثر من مهدي واحد، لأن ظاهرة (المهدي) تعني الثورة والحرية والعدالة، لهذا نجد ان معظم قصص المهدوية في القرون الاسلامية الاولى قد ارتبطت بحركات سياسية ثورية غالبا ما تتصدى لرفع الظلم والاضطهاد وتلتف حول زعيم ينتمي الى آل بيت النبي. وعندما تفشل الحركة او يموت الامام او يقتل في المعركة او يختفي في ظروف غامضة، سرعان ما يظهر إمام جديد.. وقد ورد في الأثر عند النبوختي والاشعري والقمّي والكشّي ان جماعة زعمت ان الامام علياً بن ابي طالب رضي الله عنه لم يقتل، ولا يقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ويملأ الارض قسطا وعدلا، كما مُلئت ظلما وجورا.
وبعد مذبحة كربلاء، التف البعض حول محمد بن الحنفية ـ اخي الحسين بن علي. وعندما توفي محمد في ظروف غامضة، قالت جماعة من انصاره (الكيسانية):
laquo;إنه لم يمت، وانه الإمام المهدي المنتظر الذي سيملأ الارض قسطا وعدلاraquo;.
وهناك من اعتقد بمهدوية (أبو هاشم)، وهو ابن محمد بن الحنفية، ولو اردنا الوقوف امام اعداد (المهدي المنتظر) الذين ظهروا في حقب مختلفة من التاريخ، لطال بنا الحديث.
اما المهدي المجمع عليه عند الشيعة الإثني عشرية، فهو محمد بن الحسن العسكري، فلا استطيع الخوض فيه بسبب عدم الاختصاص. ولكن بعد ميلاده ـ اقصد محمد بن حسن العسكري، وغيبته الصغرى وغيبته الكبرى ـ تنتظر ظهوره طائفة الشيعة الامامية الاثني عشرية.. واصبحت نظرية المهدي تشكل جزءا هاما من الممارسات العملية في الفكر الشيعي المعاصر، وما دعوة ولاية الفقيه التي ينادي بها فريق من الشيعة الا جزء من هذه الممارسة، حيث يقوم الفقيه العالم، مقام المهدي الغائب، الى ان يؤذن له بالظهور. وبسبب الاجتهاد المفتوح عند الشيعة، فقد تعددت وجهات النظر في موضوع المهدي والمهدوية، لدرجة ان احد الكتاب من الشيعة المعاصرين وهو احمد الكاتب انكر تماما ولادة محمد بن الحسن العسكري (المهدي)، وقد اصدر في ذلك كتابا بعنوان (تطور الفكر السياسي الشيعي.. من الشورى.. الى ولاة الفقيه).. تناول فيه قضايا مثيرة للجدل في موضوع (المهدي المنتظر).
* بالطبع هناك أمور أخرى من الممكن الخوض فيها، وهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بفكرة (المهدي المنتظر) مثل المهدي الذي ظهر في السودان منذ قرنين، ليقيم ثورة في مواجهة الانجليز.. هذا الى جانب ما يردده البعض من ان ظاهرة المهدي تمثل الأمل المشرق عند الشعوب المستضعفة، اذ ان معظم الطوائف الدينية تنتظر مهديها الذي بشّر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض الاحاديث التي أوردنا نماذج منها، فالدروز مثلا الذين تعود جذورهم الى الفاطميين، ينتظرون (الحاكم بأمر الله)، ناهيك من الأديان الأخرى التي تنتظر
مهديها كاليهود والمسيحيين والصابئة وغيرهم من اصحاب المعتقدات الأخرى.