bull;تعالوا بنا أيها الأحبة بعد جولتين من النقاش الطويل حول أمور دينية تاريخية أججت مشاعر الكثير منكم بالمناوشات ذات الطابع البحثي التاريخي، لكن نتائجه أن هناك خندقين متقابلين ومتناحرين، وهذا ما لا أريده.. لذا سننتقل اليوم لنقف على قضية أُلفت فيها عشرات الكتب وهي قضية انتحار أرنست همنغواي..

bull;بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية، أخذ همنغواي يبحث عن (أغنيس فون كورفيسكي) التي أحبها في معظم مدن أوروبا.. ولما يئس عاد حزيناً إلى نيويورك.. وحين نُشرت روايته الشهيرة ( وداعاً للسلاح ).. جاءته هذه الرسالة على عنوان الناشر:
quot; صباح الخير يا وسيم.. روايتك عظيمة.. ولكنك لم تفي بوعدك!!.. لماذا ذكرت فيها أشياء كثيرة هي كنزي وكنزك وحدنا؟!.. لعلك الآن تعيش قصة غرام؟!.. هل اخترتها في مثل سنّك يا وسيم؟!.. دعني أصارحك يا (أرني).. أنا لست الفتاة الطيبة الرقيقة التي تظنها !!.. فلكل إنسانٍ عيوبه يا (وسيم).. لم أكن أريد أن تُشوَّه صورتي في عينيك إذا تزوجتني.. فمن المؤكد أنك كنت ستعرف كل شيء.. وكنت ستكرهني.. وهذا ما لم أكن أستطيع تصوره.. (أرني) يكرهني؟!.. الموت أهون علي من ذلك.. حبيبتك ذات الفم الرطب.. (أجي)..quot;.
لم يكن همنغواي يعبأ بما كتبته عن نفسها فهو يحبها رغم كل تجاربها السابقة وكان على معرفة بها.. ولم يحب من قبل كما أحبها..

- 1-
bull;في 2 يوليو عام 1961 استيقظ أرنست همنغواي مبكراً.. منادياً على خادمه:
- ألفريد.. ألفريد..
- نعم يا سيدي.. لقد استيقظتَ مبكرا ً، وليس هذا موعدك المعتاد.. هل تنوي السفر يا سيدي؟!!
- كلا.. كلا ألفريد.. هل السيدة في الحديقة؟!..
- لا يا سيدي.. لقد ذهبت إلى السوق.
- في السابعة والنصف صباحاً؟!..
- قالت إنها ستمر على منزل صديقتها السيدة ويلكوت، وستتناول معها طعام الإفطار ثم تذهبان معاً إلى السوق.. أظن أن السيدة أخبرتك بذلك مساء أمس وأنتما على العشاء!- هل أُعِدّ لك الإفطار يا سيدي؟!
- من المؤكد أنني لم أكن منتبهاً إلى ما قالت..

- كلا.. اذهب إلى حظيرة الخيول.. وجهّز لي الجواد نسترداموس.. سأخرج إلى جولة في الغابة القريبة.
- كما تشاء يا سيدي.
وذهب الخادم إلى الحديقة الملحقة بالبيت الأنيق الذي شيّده همنغواي عند أطراف سلسلةٍ من الجبال الصخرية المحاطة بالغابات الكثيفة في ولاية (أيداهو)..
واتجه إلى خزانة الأسلحة وفتح بابها الزجاجي وأخرج بندقيته الأثيرة (كورونا 3)..
مسح على كعبها الخشبي كما يمسح على رأس طفلٍ محبوب، وعاد بها إلى المنضدة وسط الغرفة.. وفي هدوءٍ.. وضع في مخزن البندقية رصاصةً واحدة.
ثم أخرج قلماً من جيب قميصه وكتب على ورقةٍ تصادفَ وجودها على المنضدة، كانت فاتورة حساب البقالة القريبة للبيت.. لم يعبأ بمحتواها.. وأخذ يكتب خلفها :
quot; لم أعد أحتمل !!.. إنها تلاحقني ليل نهار.. في عينيها الجميلتين نظرة عتابٍ مروعة.. لم تكن خائفةً مني !!.. كم كنت نذلاً.. لكنني لم أكن أقصد يا (آجي)!!.. أنتِ تعرفين أنني لم أكن أقصد!!..quot;
ألقى بالقلم.. وأمسك بالبندقية.. ثم وضع الفوهة في حلقه وضغط على الزناد.

2
كتب المحقق الأدبي مايكل موهر:
quot; هذه الورقة.. كانت تحمل تاريخ اليوم السابق لانتحار همنغواي.. وكان من المفترض أن تكون تحت نظر المحقق القضائي الذي استدعته زوجة همنغواي والخادم ألفريد عقب اكتشاف انتحاره.. ولكني لم أجد في محاضر الشرطة ولا في تقارير الطبيب الشرعي أية إشارة إلى وجود هذه الورقة.. حتى عثر عليها مصادفةً الفتى الصغير جاك هولدن بين صفحات كتابٍ استعاره من المكتبة العامة في مدينة هيوستن!!..
تُرى لماذا اختفت تلك الورقة منذ ذلك التاريخ؟!.. ومَن أخفاها؟!.. أهو الخادم ألفريد.. الذي كان أول من هرع إلى البيت فور سماعه الطلقة وهو في حظيرة الجياد؟!.. أم هي الزوجة حين عادت على أثر مكالمة ألفريد التلفونية؟!..
الثلاثة الآن بين يدي الله.. فلا أمل في معرفة الحقيقة منهم، ولم يبقى إلا أن نتحرى الحقيقة وفقاً لتسلسل الأحداث التي أسفرت عنها التحقيقات في هذه القضية quot;.

bull;إن النتائج التي توصل إليها المحقق الأدبي موهر مثيرةٌ للدهشة.. وهي تشير إلى صفحاتٍ منسية من حياة همنغواي !!.. صفحاتٍ قديمة !!.. تقوم أحداثها على صورة فتاةٍ جميلة.. رشيقة اسمها (أغنيس فون كورفيسكي).. أو( آجي ) كما كان يدعوها همنغواي.. أو( فون ) كما كان يدعوها زملاؤها في مستشفى الميدان قرب مدينة ميلانو الإيطالية.. وهي ممرضةٌ تبلغ السابعة والعشرين من عمرها، مرحة.. محبة للحياة..

bull;وبينما كانت تسير في ردهة المستشفى سمعت صديقتها زيلدا تنادي عليها :
- فون.. فون..
- ماذا هناك يا زيلدا؟!.. العمل اليوم كثير جداً.. فلا وقت عندي للحديث عن مغامراتك العاطفية مع الضباط الجرحى!..
- هل تذكرين مواطنك الأمريكي الشاب الوسيم؟!
- كثيرون هم الذين جاؤوا من أمريكا ليشتركوا في هذه الحرب التعسة.. فمن تعنين؟!
- سائق عربة الإسعاف.. أرنست..
- آه.. هذا الذي لا يكف عن الكتابة !!.. تصوري أنه يكتب حتى وهو يقود السيارة.. ولكن.. ماذا عنه؟!
- إنه يرقد الآن في الجناح الذي تعملين فيه..
- (بلهفة).. هل هو مصاب؟!!
- انفجرت قرب سيارة الإسعاف التي يقودها قنبلة ونجا من الموت بأعجوبة.. اذهبي إليه فهو لا يكف عن السؤال عنك.

- 3-
bull;كان أرنست همنغواي في العشرين من عمره حين تطوع في الحرب.. فاختاروه ليقود سيارة إسعاف في منطقة ميلانو.. وأعجب بمواطنته الأمريكية الشابة (أغنيس فون كورفيسكي) وكان يشعر نحوها بميلٍ عجيب.. قالت له يوماً:
- ألا تكف عن الكتابة يا وسيم؟!.. هل أنت كاتب؟!..
- أحب أن أكون كاتباً.. ولكن يبدو أنني لن أفلح في ذلك.. لماذا لا تقرأي هذه القصة التي انتهيت من كتابتها أمس؟!..
- أنت خالي القلب يا وسيم.. تكتب قصصاً.. والموت يحوم فوق رؤوس الناس في كل لحظة؟!..
- أنت التي تقولين هذا !!.. وضحكتك ترنّ في كل أجنحة المستشفى؟!
- أتعرف.. إذا لم نضحك في هذه الأيام الدموية.. سنموت كمداً بدلاً من أن نموت برصاص الألمان..
- هناك يا عزيزتي ما هو أفضل من الموت !!.. أن نموت حباً !!..
- ألم أقُل لك أنك خالي القلب يا وسيم.

منذ أن رقد في فراش المرض كانت (أغنيس فون كورفيسكي) توليه كل عناية ورعاية.. وقد كتب عن هذه المرحلة في يومياته:
quot; أعرف أنها على علاقة ببعض الضباط.. ولكنني أحبها.. وأظنها ستكون حبي الأول والأخير.. سأتزوجها إذا قبلت ذلك.. ولماذا لا تقبل.. وهي معي كل أوقات راحتها؟!.. بل هي كثيراً ما تقضي جزءاً من الليل على مقعدٍ بجوار فراشي!!.. لا يحزنني إلا أنها تقول لي في بعض الليالي:
- لن أقضي معك الليلة وقتاً طويلاً يا أرني.. لقد اتفقت مع الدكتور هارلي على قضاء السهرة في مرقص المعسكر!!.. هل يحزنك ذلك؟!!
وكان ذلك يحزنني منها جداً.. كنت أريدها أن تبقى بجانبي ليل نهار.. كنت أغار غيرةً شديدة من دكتور هارلي رغم أنها تؤكد لي في كل مناسبة..
- لا تكن غبياً.. لست أحب هارلي.. كل ما هنالك أنه ظريف وكثير الفكاهة.. وأنا أحب أن أضحك.. الحياة قصيرة يا أرني.. يجب أن ينتهز الإنسان كل لحظة ليضحك ويمرح ويسعد.. ثم.. ثم إنني أشعر شعوراً غريباً بأن حياتي قصيرة..
- ما هذا الهراء !!.. أنت صغيرة.. وستتزوجينني يا (آجي)..
- سأتزوجك عندما تنتهي الحرب يا مجنون.. ولكن يجب أن تعرف من الآن أنني شديدة الغيرة.. خصوصاً وأنك وسيم.. وأنا أكبرك بتسع سنوات.
- أنتِ في عيني أجمل وأصغر فتاة في العالم كله يا (آجي).
- يجب أن تعطي فارق السن اهتماماً أكبر يا (أرني).. فأنا في التاسعة والعشرين وأنت في العشرين.. ومع هذا فسأتزوج منك لو كان الفرق بيننا مئة عام.. إذا قبلتني زوجةً لك..
- لنتزوج الليلة إذاً!..
- (ضاحكةً).. وكيف تقف أمام القس؟!.. بعكازين؟!!..

- 4-
bull;إلى أين حملهما جواد هذا الحب الجامح المجنون؟!!..
إشاراتٌ كثيرة إلى انفلاتاتٍ عاطفية في روايته الشهيرة (وداعاً للسلاح).. فثلاثة أرباع الرواية هي عبارة عن انطباعات همنغواي عما كان يحدث في مستشفى الميدان في ميلانو.. والباقي كتبه وهو على فراش المرض في تلك المستشفى.
bull;ونُقلت (أغنيس) فجأةً إلى مستشفى فلورنسا، حيث انتشر وباء التيفوئيد فيها ليفتك بأهالي المدينة التاريخية.. ومن هناك كتبت إلى صديقها الراقد في مستشفى ميلانو:
quot; سأكتب إليك أكثر مما تكتب لي، مع أنك كاتب وأنا مجرد ممرضة بسيطة !!.. هل تعرف ماذا كنت أعمل في نيويورك قبل أن أتطوع للعمل في مستشفيات إيطاليا؟!.. كنتُ بائعة زهور يا وسيم..
لك كل حبي وعواطفي..
ملحوظة : لا تكتب في مذكراتك أي شيء عن آخر ليلة قضيناها معاً!!quot;.
كان يكتب إليها كل يوم.. دون أن ينتظر رداً.. المهم أن يكتب لها بصفةٍ مستمرة.. ويبدأ كل رسائله بهذه الكلمات :
يا نور حياتي.. يا صغيرتي الجميلة.. يا ذات الفم الرطب.. يا حبي الأول والنهائي..

- 5 -
توقفت رسائل أغنيس فجأةً !!.. وكان أرنست همنغواي قد شُفي.. ولابد من عودته إلى أمريكا..
كتب في مذكرته الخاصة..
- سأبحث عنها في كل مكان وأحملها إلى المذبح لنتزوج.. لا أصدق ما سمعت عن أنها سافرت فجأةً إلى لندن.. لماذا؟!.. هل لتتزوج الدكتور هارلي؟!.. لكن زميلتها زيلدا قالت لي : إنها لم تحب دكتور هارلي قط.. إنها لا تحب سواك.. إذاً لماذا تختفي عني فجأةً ولم تخبر أحداً عن مكانها؟!!

bull;وهداه ختم بريد الرسالة التي بعثت بها إليه، والتي تعاتبه فيها عما نشره في قصته ( وداعاً للسلاح ) من ذكرياتٍ تخصهما فقط.. هداه إلى المدينة التي تقيم فيها.. وسافر إلى ميلانو لمقابلة صديقتها زيلدا، التي بادرته بالقول :
- أجل إنها في نابولي.. ولكن بحق السماء.. دعها في سلام يا أرنست.. إنها متزوجة.. تزوجت فتىً طيباً وثرياً.. وهو يحبها حباً كبيراً..
- من هو؟!
- دوقٌ إيطالي اسمه ( دومينيكو كراتشيوللو).

استقبله الدوق بسماحةٍ وحفاوة، وبادره بالقول :
- إنها لم تخفي عني شيئاً عن علاقتكما السابقة يا سيد همنغواي.. وصدقني إذا قلت لك إنني مثلها شديد الإعجاب بروايتك الأخيرة!!.. ولكن لي رجاءٌ عندك.. دع حبنا في سلام.. وأتمنى أن تعدني بذلك!..
- هل تسمح لي بمقابلتها؟!..
- بالطبع يا سيد همنغواي.. أنت ضيفي في القصر.. وغداً سأقيم حفلاً على شرفك.. وإنه ليُشرّفني حقاً أن أستقبل في قصري كاتباً مرموقاً بحجم أرنست همنغواي.
كان حفلاً رائعاً.. همنغواي مع أغنيس في قاعة الموسيقى بالقصر.. بينما كان الدوق مع أصدقائه في حديقة القصر..
فجأةً دوى طلقٌ ناري !!.. توقفت على إثره فرقة الموسيقى عن العزف وبعد أن سادت الفوضى في الحفل.. شاهدوا همنغواي مقبلاً يعدو من الباب المؤدي إلى الحديقة، وهو يخاطب نفسه..
- لماذا؟!.. لماذا؟!.. (صارخاً).. ربّاه.. لماذا؟!.

- 6-
وجدوا في رأس (أغنيس فون كورفيسكي) رصاصةً سلبتها الحياة.. ولم يجدوا المسدس!.. ومن الغريب أن الدوق (كراتشيوللو) استطاع بنفوذه أن يوقف التحقيق الذي بدأته شرطة نابولي..
وبعد الجنازة.. عاد أرنست همنغواي إلى نيويورك.

ويختتم المحقق الأدبي موهر:
quot; ليس هناك من يجسر على اتهام همنغواي بقتل من أحبها (أغنيس فون كورفيسكي) التي أصبحت الدوقة (كراتشيوللو) فيما بعد، ولكنني أستطيع أن أربط الأحداث التي قرأتموها بتلك الورقة التي كتبها همنغواي قبل انتحاره !!.. الورقة التي أخفتها زوجته وخادمه، وعثر عليها أحد القراء مصادفةً في كتابٍ استعاره من المكتبة العامة..
وقد ثبت معملياً أن الورقة كُتبت بخط يد الكاتب الأمريكي الأشهر أرنست همنغواي، فأسلوبها ومفردات ما جاء فيها يتطابق تماماً مع مفرداته quot;.

* * *
quot; لم أعد أحتمل.. إنها تلاحقني ليل نهار.. في عينيها الجميلتين نظرة عتابٍ مروعة !!.. لم تكن خائفةً مني!!.. كم كنت نذلاً!!.. لم أكن أقصد يا آجي!!.. أنتِ تعرفين أنني لم أكن أقصد!quot;