بعد أن أخفقت المرأة في الكويت بإنتخابات 2012، ظهرت مصطلحات جديدة للتعبير عن هذا الإخفاق، دلت على التحالف الذي تم بين ذوي الإتجاهات الإسلامية السياسية و(البدو) أو القبائل.. وهناك من وجه أصابع الإتهام إلى(البدو) ناحياً باللائمة على ظاهرة البداوة مقارناً إياها بالتخلف..
* * *
bull;قضية كهذه دفعت بي للبحث في موضوع (البدو) و (البداوة) فوجدت أن (البداوة) بأشكالها المختلفة قد إستحوذت على إهتمام الباحثين كظاهرة مصاحبة للمجتمعات البشرية، وثبت لهؤلاء الباحثين : أنه ليس بالضرورة أن تكون كل أمة قد إرتقت إلى مرحلة حضارية، كان لابد لها من المرور في مرحلة البداوة، ثبت تجاوزتها خلال مراحل تطورها التاريخي.
فهذا المفهوم الذي كان شائعاً قد تأكد عدم صحته علمياً.
فالبداوة كما أكد العلماء والباحثون هي عبارة عن نظام إجتماعي لا ينشأ إلا في الصحراء، وإذا ما وجد البدوي نفسه يستوطن في بيئة مدنية، فكثيراً ما نجده يمارس قيم وأخلاق الصحراء بما يتوافق مع القواسم المشتركة التي تسود في المدينة كنظام إجتماعي.. وينفر (البدوي) من تلك القيم التي لا تتوائم مع طبيعته التي درج عليها.
من هنا يمكننا القول : إن منطقة صحراء العرب قد جمعت ما بين منابع البداوة والحضارة، وإن المراكز الحضارية كانت منتشرة في الصحراء العربية وكأنها واحات محاطة بكثبان من الرمال، وإذا جاز لنا أن نميز بين البداوة والحضارة، فإننا نجد هذا التمييز يتمثل بالقيم الأخلاقية التي ينقلها البدوي إلى مجتمع المدنية ndash; هذا المجتمع ndash; الذي كون لنفسه مجموعة نشاطات في حقول الثقافة والفنون والعلوم.. وبهذه القيم إستطاع البدوي العربي أن يوجد لنفسه موقعاً في إطار عملية وحدة وصراع المثل والمفاهيم والأصالة.
bull;كانت محصلة ذلك أن إنبثقت أعظم الحضارات من الشرق الأوسط، وكان العنصر البدوي فعالاً في إبراز ملامح تلك الحضارات إلى حيز الوجود، حيث إنطلقت موجات البدو منذ بداية التاريخ من صحراء الجزيرة العربية نحو المناطق التي تقع على الأنهار..
حيث كانت الجزيرة العربية في عهود كثيرة أشبه بخزان ضخم تتزايد فيه المياه، حتى يعجز عن إستيعابها فيفيض على ما حوله.
إذا كانت الجزيرة العربية تضيق بزحام السكان أو تقل فيها المياه والزروع التي تكفيهم ndash; هم وحيواناتهم ndash; فيضطرون إلى الهجرة نحو البلاد الخصبة والمجاورة لهم كالعراق والشام..
وربما إمتدت هجرة بعضهم إلى مصر عن طريق سيناء ndash; كهجرة الهكسوس الذين سكنوا وادي النيل وحكموه نحو قرنين ndash; وكانت لسكان الجزيرة العربية هجرات إلى الحبشة أيضاً حتى أنهم أسسوا فيها بعض الممالك كـ مملكة : (يكسوم).
ويرى علماء الإجتماع أن عنصر الصراع بين البداوة والتحضر، أو (التمدن) هو الذي إرتفع بمستوى العقل البشري إلى درجة تثير الإستغراب، فلولا ذلك الصراع الذي أخذ طابعاً تنافسياً لإثبات الوجود وتأكيد الكينونة والهوية من خلال المثل والأخلاق والعادات، لما إستطاع إنسان الشرق الأوسط أن يبني أعظم الحضارات التي كانت ومازالت ترفد بمعطياتها البشرية جمعاء بما قدمته من مفاهيم وقيم وثقافات وعلوم.. هي الآن في متناول الأجيال الراهنة تستعين بها وتعتمد على نتائجها، وتكرسها لخدمة مسيرة الحياة كعنصر من عناصر الإطمئنان لحياة الإنسان فوق هذا الكوكب.
* * *
bull;والبداوة تستمد من الصحراء مقوماتها الثقافية والإجتماعية القائمة بذاتها على خصائصها العامة، ومركباتها الخاصة، وإذا كانت علاقة سكان الصحراء مرتبطة بالإنتاج الطبيعي منها، فإن قانون هذا الإرتباط قد فرض على البدو أن يكونوا أقوياء أشداء وشجعان ndash; quot; وهم الذين يكون رزقهم تحت ظلال رماحهم quot; ndash; كما قال ابن خلدون في مقدمته.. لذلك فلا يجوز إطلاق الأحكام على عواهنها ودون دراية بمكامن حقيقة البدو والبداوة، فلا يوجد بينهم موضع للضعفاء لأنهم نشأوا في عالم الصحراء حيث المروءة والإباء والكرم والعدل والعفو عند المقدرة، وما إلى ذلك من مفاهيم وقيم بدوية، نشأت في الصحراء.. وإنتقلت منها إلى المدن الأخرى، ونستطيع القول ndash; بلا تردد ndash; إن هذه القيم قد إنتقلت إلى المدن البدوية التي غزت المناطق الآهلة، فغدا البدوي متمازجاً في حياته ما بين البداوة والحضارة، ويتفاعل مع معطيات هذا المنتج الإجتماعي الجديد الذي إنعكست تفاعلاته على أعداد كبيرة من البدو، فتصدروا المواقع العلمية والأكاديمية، وتبوأوا مواقع متقدمة في إنشاء المؤسسات التجارية والإقتصادية.
bull;فليس من المنطقي أن تتصدى بعض الأقلام للنيل من البدو بسبب صراعات سياسية مستغلين ظرفاً طارئاً في عدم حصول المرأة الكويتية على الأصوات التي تدخلها البرلمان، فتصبّ تلك الأقلام جام غضبها على ظاهرة (البداوة)، فإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على جهل أولئك (الكتبة) بحقيقة البداوة والبدو.
* * *