العلاقة بين الفكر والواقع هي ما تفرزه المعاناة، ما يتمخض عن احتكاك حميم ومعايشة، وفيما سوى ذلك يظل الفكر متهما بنزوع طوباوي، فلكي يبدو الفكر واقعيا أو لنقل بلا مورابة حقيقيا يتسم بقيمته المعرفية الماثلة في توفر المطابقة لابد من امتحان: ما مدى نجاعة تلك المقولات أو الغايات التي يرتكز عليها كل quot;حراك مزعجquot;؟ متى تتحول الفكرة إلى رغبة؟ الرغبة بوصفها تعبير عن حاجة، والمشروطة بصدقيتها أو بتعبير أكثر مباشرة: الرغبة الناجمة عن حاجة حقيقية ملتحمة جوهريا بالذات، والتي ينتج عن عدم إشباعها ذلك الانكفاء والضمور الوجودي الذي يسمونه ألم..
النيرفانا تكشف أن الحقيقة هي البنت الشرعية الوحيدة للألم، فهي تشعرنا حتى لا أقول تعلمنا إلا تجوزا، بأن الفكرة، كل فكرة، إن لم تتولد من رحم المعاناة أو التجربة الحميمة، فهي ميتافيزيقا أو هذيان أو اغتراب أو أدلوجة تحجب العالم بدل أن تكشفه..

تقول لنا النيرفانا أنه من رحم الألم يتكشف العالم وتنزاح عنه غمامة المتشدقين بالأفكار والمثاليات الحالمة، ولكن النيرفانا تعيد الألم إلى هويته الجوهرية من حيث هو أصل أو طبيعة أو ماهية لهذا العالم نفسه، فبما أننا quot;وجود ndash;في- العالمquot; على حد قول هايدغر فإننا نتحسس هويتنا وكينونتنا من الاحتكاك بتفاصيله، وكل احتكاك في فلسفة النيرفانا ليس سوى ألم، ومهمتنا الأساسية في هذا الوجود هو الحد من جرعاته ذلك أن quot;الوجود ndash;في- العالمquot; بما هو معايشة هو أساسا معاناة.

لكننا نخضع دائما لأوهام اللحظة، وقابعون باستمرار في كهف أفلاطون، ومنهزمون أبدا أمام سطوة الصنم. من يقرأ اللحظة في امتدادها وسيرورتها ويخرج من الكهف قبل أن يحطم صنمه الداخلي هو وحده -وقد تحول إلى نبي- من يدرك بأن ثمة فائض وجودي هو مصدر لا نهائي للألم.. هنا نبتعد عن النيرفانا ونتوقف عن متابعة بوذا في رحلته إلى تنوره الخاص، ومن هنا تماما تبدأ فلسفة التشاؤم..
المتشائم جزوع، وحكيم إلى الدرجة التي يصبح فيها التفاؤل ضربا من البلاهة، أو عماءً متأصلا، بصفته رديفا للجهل المركب، الجهل الذي يؤسسه قيد يتقنع بقناع المعرفة العقلانية، إذ العقل في حضوره قيد، وهو ما يغيب عن فلسفة التفاؤل واليوتوبيا، العقلاني متفائل لأنه يشيد معرفته اليقينية على قلاع رملية من الوهم يسميها مقولات، فيضفي عليها الثبات ثم يسقطها على عالم متحول فينفي الزمن ويلغي التاريخ متعاليا في كل خطواته وفتواحاته المعرفية على المعايشة والتجربة، أما خصمه المتشائم فهو، على العكس، متخم بالتجربة، ولأنه كذلك فهو لا يملك يوتوبيا وليس بحوزته وصفة سحرية ونهائية لكل ما يعتور العالم من أزمات وأمراض بنيوية، لقد عاين الزيف المتفشي في كل عتبات الوجود حتى أمسى عدميا في الفلسفة، لا أدريا في الاعتقاد.

نذير الماجد

مماحكة الوجود جعلت منه عبثيا، في الفن كما في الفلسفة والروح التي سئمت عناء حياتها، صموئيل بيكيت ذلك العبثي الساخر أبن بار لهذه المدرسة، جرب الحياة ثم جرب الأدب، ومنحته الطبيعة سحنة متجمدة، لم يجد شيئا جديرا باستمتاعه إذ ليس من شيء إلا وهو باعث على الضجر وما من شيء يمنحه هذا العالم لصموئيل بيكيت المستلقي على أريكته أكثر من الانتظار، إنتظار اللاشيء، لاشيء يمكن أن يفعله أو يستحق تجشم عناء الفعل، هذا ما جعله وفي سلوك غرائبي يستقبحه العقلاء يؤثر فعل الاسترخاء، فكل ما يمكن فعله عند بيكيت هو أن تنتظر، أن تسترخ..

والمتشائم مسافر، يجوب المكان ويحطم أقنعته، ويكشف متع الجسد ويخوض معترك الروح، ما من متعة إلا وهي زائلة، وفي زوالها يكمن زيفها، ألم يبلغ بوذا لحظة الاستنارة عقب انكشاف زيف الرغبة؟ كان سيظل أميرا لو لم يصطدم بشيخ هرم يهدده الموت، ثم معدم يهدده الفقر، ثم مريض ينهكه الألم، كان سيظل مخدوعا لو لم يصطدم بمرارة العدم. جرب بوذا الحياة وعاين الموت، وسافر بين هذا وذاك نحو خلاصه الفردي، الخلاص الذي شخصه في كسر تعاقب الحيوات في رجوعها الأبدي لا لكي يبلغ بإنسانه ذرى إنسان نيتشة الأعلى ndash; السوبرمان- بل ليبلغ ذروة الوجود التي قد لا تكون شيئا آخر غير العدم/الموت..

والمتشائم متنبئ أعمى، التجربة لديه بصيرة، ولأن البصر خداع فالعالم لا يكشف عن ذاته إلا عبر حاسة اللمس، الاحتكاك بالوجود يبلغ هنا ذروته، يكشف تداعيه بعد إجراء الملامسة.
في رسالة الغفران ثمة تمجيد وامتداح للمتع الموغلة في حسيتها، ولكنه مديح الساخر، فالمعري ذلك الناقم على غريزة التكاثر بوصفها جناية ولعبة سمجة مسكون ببصيرة قادرة على الكشف والرؤية. الحياة عند المعري هي نفسها نبيذ، الواهمون يقرأونها حرفيا، أما المعري ومعه معشر المتشائمين فيعرف أنها مجاز، إنها الخمر التي خدعت quot;أبا نواسquot;، وجعلت من المتصنع quot;المتنبيquot; متحذلقا حكيما بزيف، المعري يرفض الخداع، فالحياة لا تستقيم إلا بتشاؤم، إذ سيكون المزاج الاسود مثل الخال الذي يضفي على البياض النقي الأبله لمسة جمالية أقرب إلى الحياة..

والتشاؤم أخيرا نقيض للمثالية بكل تجلياتها الدينية والاجتماعية والسياسية، كل وعد هو حماقة، وأدلوجة يناضل المتشائم لكشفها وتعريتها، المتفائل أو المثالي يؤسس جنته أما المتشائم فيشير في دأب فلسفي متواصل إلى ذلك الجحيم خلف تلك الفراديس المتوهمة، كل وعد بالخلاص هو يوتوبيا إذن، حقيقة مرة لكنها مع ذلك حقيقة، الوعد حماقة فلا المجتمع سيغدو يوما بلا طبقات ولا الجنة ستأتي، والحكمة العاصمة من السقوط هي فقط في استرخاء المجرب الذي يصوغ عالم وعيه منطلقا من مماحكته بالواقع واللحظة الراهنة، وبالعكس سيتمسك المثالي بتأملاته وسيدشن على أساسها مرافعته:
لست غبيا بالقدر الذي يدعوك للمناورة، أنت تخلق عالمك في صندوق! لست معتوها بما يكف لكي تكسر نوافذه وتغادر! من الخفة والبلاهة كتلك التي نجدها عند quot;البهلولquot; المتهور أن تمتحن الفكرة قبل اقتناعها، أن تقدحها بشرارة الواقع لكي تبدو وجيهة، وبكلمة: الوعي ذاته هو الذي سيكيف عالمك، كن نبيها ولا تجرب، هكذا سيقول كل مثالي وهكذا سيتهم، وسيزيد مبتسما: يا بني، لست بحاجة لكي تدرك حرارة الصحراء إلى أن تتيه في quot;الربع الخاليquot;..

لكن هذا البهلول لا يفهم لغة المجردات وليست لديه قابلية على هضم التجريد، سيقول إن كانت لديه القدرة على القول، يا سيدي إنني، حتى وإن كنت درويشا مفلسا معدما من مثاليتك وأفكارك النبيلة، لا أعبد الفكرة، ولا أسجد للمثال، فالوجود أو العالم هو الذي يخلق الوعي، لن أدرك الصحراء قبل التيه ولن أدرك خطورة المشاغبة قبل امتحان الزنزانة.. ولن أدرك ضرورة المجتمع المدني قبل فحصه في مختبر مصغر، نعم إنني المعتوه الذي لا يحق لي الانتماء ولا المغايرة ولا المعارضة ولا الصدام مع طوباويتك عرفت أن ليبراليتي ومدنيتي وقيمي التحررية وجدت مستندها ونقطتها الارخيميدية مع رفقاء منهكين في زنزانة جماعية.. هناك quot;وجدتهاquot;..