يعرف السلم الاهلي عادة بانه نمط من العيش يسود في مجتمع معين يتم فيه رفض اشكال العنف بصوره المتعددة، أو التحريض عليه، وعدم اللجوء اليه لحل النزاعات بين الافراد والجماعات. وهذا يتطلب توافر اركان عدة منها سيادة القانون على الجميع حكاما ومحكومين، مأسسة الدولة، نشر ثقافة التسامح وقبول الاخر، العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وتوفير اشتراطات المشاركة السياسية على الوجه الصحيح.

وقد اصاب المجتمع العراقي بعد الاحتلال عام 2003 اختلال بنيوي ووظيفي، لم تستطع العملية السياسية المصاحبه له ادراكه لينتج لنا في المحصلة النهائية مجتمعا منقسما تجاه كثيرا من المواقف والاحداث، وزاد الطين بلة القواعد التي وضعتها سلطة الاحتلال التي لم تكن قادرة على فهم واستعياب طبيعة المجتمع العراقي هذا اذا ما اخذنا الامر بحسن نية، اما اذا ما اتجهنا الى التفسير الاخر لوجدنا ان هناك نظرة مفادها ان قوات الاحتلال هي الفاعل الرئيس في احداث الانقسام، الذي ابتدأ من خلال الموقف الاجتماعي منه والنظرة المتباينة تجاهه بين مرحب وصامت وراقض، ثم البناء السياسي الذي اقامته، لاسيما مجلس الحكم الذي قسم السلطة على اساس عامودي، بمعنى النظر الى المجتمع العراقي على انه مجموعة من المكونات، وان التمثيل السياسي لابد وان يعكس من خلال تمثيل هذه المكونات دون النظر الى ابسط مدخلات البناء الصحيح للدولة الحديثة، وهذا ما ادى الى ان يكون الحراك السياسي فيما بعد لعبة صفرية بين الاطراف السياسية قائما بالاساس على مفهوم المكونات، وهو مفهوم مضلل استطاعت من خلاله نخب سياسية ان تهيمن على هذا التمثيل من خلال اثارة الوتر الطائفي والعرقي ليكون هو العامل الاساس في عملية الاستقطاب السياسي، مثلما كان مدخلا للعنف الاجتماعي وغطاءا امثل للفساد الذي تحول في العراق من ظاهرة الى بنية ليأخذ شكل المؤسسة الصلدة التي لايمكن الان ولا في المستقبل المنظور مواجهتها او الحد من قوتها ونفوذها، والامر الاكثر ادهاشا ان هذه المؤسسة في اطارها الشكلي تعد بحق المؤسسة الوحيدة العابرة للهويات والجهويات والعرقيات والطوائف، وتشكل شبكة منسجمة ومتآلفة يخدم بعضها البعض ويسود العمل التكافلي فيما بين افرادها على افضل وجه وصورة، لتكاد ان تكون المؤسسة الوطنية الوحيدة من حيث الشكل، لكنها الاكثر تدميرا للعراق ولمجتمعه ولثراوته.

د. باسل حسين

يضاف الى ذلك ان بعضا من رجال الدين في العراق بدلا من ان يكونوا بمثابة عامل اساسي لتعزيز السلم الاهلي، اضحوا هم نجوم الفتنة واحد عوامل العنف المجتمعي الاساسية، ومما زاد الامر تعقيدا سعي رجل الدين الى احتلال الوظيفة السياسية دونما المام حقيقي بقواعدها، او صيغ البناء السياسية للدولة الحديثة، او القضايا التي تواجه الدولة في بيئة سياسية داخلية واقليمية ودولية مركبة ومعقدة، وهو ما انعكس واقعا على المنتظم السياسي، بمدخلاته ومخرجاته والتغذية العكسية، وهذا ما تجلى في نواح عدة لعل من اهمها الدستور الكسيح الذي اضحى عامل نزاع بدلا من ان يكون مرجعا لحل النزعات، اي انه اصبح جزءا من المشكلة بدلا ان يكون هو مفتاحا لمعضلات شتى، فضلا عن نواح اخرى لامجال لذكرها.

لقد دخل العراق في اتون صراع بيني والصحيح انه جر اليه و ذهب ضحيته الاف عدة دون ذنب، والامر الاكيد ان معظم ضحايا هذا الصراع هم من الفئة المغلوب على امرها، التي لم تجد ذراعا سياسيا او عسكريا لحمايتها، هذا الصراع الذي احدث شرخا حقيقيا بين الافرد والجماعات، ولاول مرة نرى في العراق مناطق اصبحت من طيف واحد ومناطق اخرى اصبحت من الطيف الاخر، وكأننا نعيش في عصر لايمت للحداثة بصلة، ومن المؤسف ان نجد في عصر العلم والحداثة والتطور انكفاء المجتمع العراقي الذي كان احد النماذج الحقيقية للتعايش والسلم الاهلي، وفي الوقت الذي لم تك توجد فيه عدة دول كان العراق من اوائل المجتمعات المتحضرة في منطقة الشرق الاوسط، وكان يضم مسلمين ويهودا ومسيحيين وصابئة ويزيدين واكرادا وتركمان وهلم جرا، وقد يكون صحيحا انه كانت تحدث مشكلات بين فترة واخرى الا ان الصحيح ايضا هو ان نمط التعايش وقبول الاخر هو السائد، وكانت ابرز مشكلة هي المسألة الكردية التي واكبت جميع نظم الحكم المختلفة في العراق منذ التأسيس لغاية الان.

ان نذر الصراع البيني تلوح مرة اخرى في الافق، بعضها نتيجة عوامل داخلية تتعلق بالتمثيل السياسي والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، التي لم نصل الى حلولا جذرية لها، وبعضها الاخر نتيجة عدوى خارجية بفعل التحولات التي تجري في دول الجوار واحتمالية انتقال مفاعيلها الى الداخل العراقي، لنكون مستقبلين للعنف بدلا من ان نكون مصدرين له كما جرى خلال السنوات الماضية، اما في المستقبل الاوسط والبعيد فالخوف من الجيل الجديد القادم الذي بدأ يتربى على ثقافة الكره والحقد ويتم تغذيته عن طريق المؤسسات الدينية ورجالاتها، واحيانا حتى المناهج التربوية، او كنتيجة حتمية لانقطاع التواصل المجتمعي، وكذلك نتيجة العراك السياسي، إذ ان الاثارة الطائفية او العرقية الوسيلة الاسهل لتأمين حشد جماهيري واسع تستطيع من خلاله النخب السياسية ادامة هيمنتها وتمثيلها دون الاخذ بنظر الاعتبار العواقب الكارثية لهذا الفعل.

ومع هذه التحديات واحتمالية فشل السلطة والنخب السياسية في ضمان السلم الاهلي، فان الامر منوط بحراك اجتماعي لتعزيز السلم الاجتماعي والامن الانساني، هذا الحراك ينبغي ان لايستبعد احدا حتى البنى التقليدية وفي مقدمتها العشائر التي ساهمت فعلا في اخماد الفتنة من خلال امتداداتها المتنوعة، ومن المفارقة القول ان السلطة العشائرية اكثر رحمة من التسلط الديني. وعلى المجتمع المدني الذي نمتلك ارقاما خيالية لاعداد مؤسساته داخل العراق ان يكون فاعلا حقيقيا في صناعة بيئة صالحة للتعايش السلمي، بدلا من ان يكون كثرة بلا فعل، نحن فعلا بحاجة الى الحفاظ على اشتراطات السلم الاهلي لان البديل المقابل بحر من الدماء لن يكون فيه احد رابح حتى مبشرو اوهام النصر واعداء العراق وهم والحمد لله كثر.