مقالتى الأخيرة بعنوان (هل بدأ العد التنازلي للحكم فى ايران؟) علق عليها بعض القراء الأفاضل وهم ما بين مؤيد ومنكر، وهذا أمر طبيعي فمن العسير جدا ان يتفق شخصان على شيء بالكامل. إختلاف الآراء وتعددها قد يحل مشاكل عسيرة، والاكتفاء برأي واحد وفرضه على الآخرين غير محمود العواقب. ولكن المؤسف أن بعض المعلقين يعتبرون الموضوع شخصيا فيهاجمون الكاتب او يهاجمون بعضهم بعضا ويستعملون ألفاظا نابية لا تليق بالانسان السوي، او يتطرقون الى أمور لاتتعلق بما كتب عنه الكاتب فيضيعون وقتهم ووقت القراء فيما لا طائل من ورائه. كتب أحد المعلقين تحت اسم محمد العبيدي ذاكرا فيما ذكر بأننى (من رواد الحسينيات فى كندا ولا اترك مناسبة دينية مثل عاشوراء ومرد الراس الا احضرها و الطم)!، ووجه الي تهمة تافهة ومضحكة فى آن واحد عندما قال بأن (مقالاتى مليئة بالحقد على كل ما هو سني )!!. ما قاله السيد العبيدي يدل بوضوح على انه لا يعرفنى شخصيا ولم يقرأ مقالاتى السابقة، وإلا ما كان وجه الي تلك التهم الباطلة.

التهمة الأخيرة لا يمكن أن تنطبق علي، فعائلتى خليط من السنة و الشيعة، و أصدقائى من مختلف الأديان والعقائد. وأنا انسان لا أهتم مطلقا بدين او طائفة او قومية الآخرين، بل يهمنى سلوكهم نحوى ونحوالمجتمع. تربينا منذ طفولتنا على كراهية اليهود، ولكن لدي بعض الأصدقاء من اليهود أفضّلهم كثيرا على بعض من المسلمين الذين عرفتهم. وكان احد أعزأصدقائى وأسمه (اندراوس) وهو مسيحي عرفته في بغداد منذ سنين طويلة وكان هو الوحيد خارج عائلتى الذى أخبرته بعزمى على مغادرة العراق قبل ثلاثة عقود، بينما امتنعت عن إخبار معظم أقاربى وأكثر أصدقائى بذلك، حيث أن إفشاء ذلك السر قد يؤدى الى منعى من السفر وايداعى السجن، وهى من الأمور المسلمة بها فى زمن حكم البعث. وعندى أصدقاء من الكورد والأرمن والصابئة ولم يحدث فى يوم من الأيام أن تناقشنا فى أمور الدين اوالمذهب او القومية، إذ لا أحد فينا اختار مذهبه و دينه و قوميته، واؤمن بالقول: خير الناس أنفعهم للناس.

عاطف العزي

أما تهمة اللطم التى اتهمنى بها السيد العبيدي، فقد أضحكتنى لأننى لم ألطم فى العراق فكيف ألطم فى كندا؟! لم أشاهد حسينية واحدة فى كندا، ولم أدخل جامعا الا ثلاث مرات لقراءة الفاتحة على ارواح الموتى لمجاملة أهليهم. إن مقتل الحسين سبط الرسول إبن فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين ابن علي بن ابى طالب ابن عم الرسول كان فاجعة ما بعدها من فاجعة خاصة وإن من أمر بها ومن نفذوها هم من المسلمين العرب. قتلوه فى ارض كربلاء بعدما حاصروه وأهل بيت النبوة ومنعوا عنهم الماء والطعام، ثم أخذوا رأسه الشريف الى يزيد بن معاوية بن ابى سفيان فى الشام، وهذا الحادث الجلل سيبقى مع المسلمين فى وجدانهم وضمائرهم الى ما شاء الله. قبل بدء المعركة دعا الإمام أخته زينب وقال لها ndash;وهو يدرك أنه مقتول لا محالة- يا أختاه إن انا قتلت فلا تشقى جيبا ولا تخمشى خدا. ولكن الصفيون الذين حكموا ايران قبل أكثر من 500 سنة ولأسباب سياسية صرفة أدخلوا اللطم وضرب الرؤوس بالسيوف (التطبير)، فتلقفها المتاجرون بالدين والمذهب لمنافعهم الشخصية وأضافوا اليها مراسيم أخرى، وتبعهم الجاهلون واستمرت الى يومنا هذا. كبار علماء الشيعة يرفضون هذه المراسيم، ولكن المنتفعون هم أقرب الى العامة واشد تأثيرا عليهم من العلماء وباستطاعتهم ان يشوهوا سمعة اي عالم يعارضهم، فاضطروا الى السكوت، واكتفوا بالاعتراض همسا بين معارفهم والمقربين اليهم.

لا يمكن أن يشك أحد فى أن الامام الحسين هو مع جده المصطفى وابيه علي المرتضى فى الجنة، فلماذا ألطم على من هو فى الجنة؟ كم كان يحز فى نفسى عندما كنت أشاهد مواكب التطبير وبعضهم تسيل دماؤهم على وجوههم، ومنهم من يترنح ويسقط على الأرض إعياء لكثرة ما نزف من دمه، ومنهم من يضرب ظهره بسلاسل من حديد. وأسوأ ما شاهدته هو بعض الآباء يشجون رؤوس أطفالهم وهم يصرخون. اليس هذا هو الجهل بعينه؟ لو مات الطفل ألا تنطبق عليه الآية quot;ولا تقتلوا النفس التى حرم الله قتلهاquot;؟ وكم كان يؤلمنى أن أشاهد الأجانب يصورون تلك المناظر البشعة ليعرضونها بالتالى فى بلدانهم.

ألا يمكن الاستعاضة عن اللطم بإقامة مجالس العزاء فى الجوامع فى ذكرى استشهاد الإمام، فيقوم مشايخ الدين بشرح واقعة الطف والغرض من خروج الامام وأهل بيته الى كربلاء ورفضه بيعة يزيد مع علمه بأنه سيقتل على ايدى أهل العداوة والشقاق، كما وصفهم الفارس الشاعرعبيد الله بن الجعفى عندما ندم على تفريطه فى نصرة الإمام حين دعاه، ولام نفسه فى أبيات منها:
يالك حسرة مادمت حيا * تردد بين حلقي والتراقي
حسينا حين يطلب بذل نصرى * على اهل العداوة والشقاق
ولو أنى اواسيه بنفسي * لنلت كرامة يوم التلاق
مع ابن المصطفى نفسي فداه * فيا لله من ألم الفراق

أنا أعلم بأنى أنفخ فى قربة مقطوعة، فإن المنتفعين من هذه المأساة لن يغيروا رأيهم، فالمال يعمى القلوب والأبصار، وبالمال اشترى الأمويون الناس وأقاموا دولتهم، بعد أن رفض الإمام علي أن يعطيهم ما ليس من حقهم من بيت مال المسلمين. وذكرت كتب التراث أن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب حينما ترك الإمام وانضم الى معاوية قال : الصلاة خلف علي أثوبْ ومائدة معاوية أدسم. وذكرت كذلك زيارة عقيل بن ابى طالب لأخيه الإمام علي فى خلافته طالبا منه أن يعطيه شيئا من بيت المال فرفض، فغادره الى معاوية فى الشام وحصل منه على ما يريده. الإثنان هما من أقرب الناس الى الإمام ولكنهما تخليا عنه طمعا بالمال. وانتهت المعارك بين علي ومعاوية بمقتل الإمام وهو يصلى الفجر، وانتصر معاوية وابن العاص، وهو انتصار للسياسة التى عمادها المكر والخديعة وشراء الضمائر. وقد قال الإمام فى معاوية: (والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر. ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس). وهذا يؤيد الرأي القائل بفصل السياسة عن الدين، فيقوم الساسة بإدارة شؤون البلد ورجال الدين بالوعظ والارشاد. وبعكسه سنبقى نراوح ويسبقنا النكرات.