إلى من ينكر الفرهود والهولوكست
(فـَذَكّرْ إنْ نـَفعَتْ الذِكْرَى)
هكذا سمي الفرهود العراقي يهودياً وعالمياً، ومعنى كلمة پوگروم باللغة الروسية هي مذابح اليهود التي كان يشنها الروس بعد تحريض القسس المتعصبين ضد اليهود.
في صباح عيد اليهود، quot; الشعبوثquot; المصادف في الاول من شهر حزيران من عام 1941، فاق يهود بغداد على وقع زلزال صمم اقتلاع جذورهم العراقية الممتدة في ارض الرافدين لما يزيد عن 2500 عام، تلك الجذور التي ارتوت من مياه الفراتين العذبين واينعت على عشق ارض السواد، لتكون هي بداية النهاية لوجود واحدة من اقدم اقوام سكنت العراق بعد ان جيئ بهم سبايا من موطنهم الاصلي في الديار المقدسة ايام البابليين إلي ديار ابراهيم الخليل (ع)، ابو اليهود والنصارى والمسلمين والذي فيه استقروا فيه بعد سبي الملك نبوخدنصر البابلي، واستقروا ومارسوا الزراعة والتجارة، وأسسوا أول بنك في العالم بسفتجات مكتوبة على الواح من الطين المحروق، تقبل في جميع انحاء المملكة البابليية، ثم كتبوا التلمود البابلي وهو مجموعة تعاليم الشريعة اليهودية وسننها والتي يعمل فيها الى اليوم في العالم اليهودي. وعن هذا الفرهود يقول والدي مدّ الله في عمره انه يتذكر يوماً صيفياً عصيباً مشؤما عاشته بغداد، اذ مازال يتذكره كونه كان يوماً مميزاً بالنسبة للبغداديين القدماء الذين نشأوا على المحبة والتعايش والإخاء، يذكر انه رأى رجال ونساءا بأعداد هائلة يهرولون ما بين شوارع المحلات اليهودية واسواقها ويعبرون جسر الشهداء الفاصل ما بين الرصافة (التي فيها اغلب مساكن اليهود) والكرخ، مما يدل على ان اغلب الذين اشتركوا بتلك الجرائم اتوا من مناطق الكرخ، فأحدهم يحمل كرسياً والآخر يحمل مزهرية والاخر اواني وأثاث منزلية وملابس الخ.. واليهود يتنقلون هاربين بخوف ورعب من منطقة الى اخرى محاولين الهروب والتخفي من تلك العصابات المتعطشة إلى الدماء، فترى احدهم يخبئ اولاده ومدخراته عند الجيران وآخر يسلم امره لله ويبقى في منزله ليواجه المصير المحتوم كون والده او والدته مرضى في الفراش، كل ذلك وحلويات العيد الجاهزة منذ امس مازالت لم تخبز بعد.
ومن ثم سمع من ابيه فيما بعد قوله: إنها يا ولدي جريمة ارتكبت بحق عراقيين ابرياء عزل لتسمى اصطلاحياً فيما بعد بفرهود اليهود، ليعلم الفتى حامد فيما بعد أن كبر، تفاصيل رهيبة من مجازر دموية وهتك للاعراض يندى لها جبين الانسانية، كان يكلمنا عنها دائماً من إملاء ذكرياته مع اصدقاءه وجيرانه التي لم يستطيع نسيانها أبدا.
شكلت هذه الاحداث احدى حلقات مسلسل الهولوكوست النازي العالمي المدبرة ضد يهود العالم بصورة عامة وهذا الجزء منها كان من نصيب اليهود العراقيين.
وبسبب وجود مؤامرة عالمية واقليمية كان عدد الضحايا غير متفق عليه كونه لم يوثق رسميا عن طريق الحكومة العراقية التي شكلت لجنة استقصاء الحقائق تعاملت مع الحدث بشيء من الجدية وشنقت بعض المعتدين الذين اغتصبوا وقتلوا ونهبوا، وقامت باستجواب بعض المنهوبين والمجروحين ولكن القتلة صاروا يهددون اليهود بالقتل إذا اخبروا السلطات بجرائمهم، فآثروا الصمت، حتى جاءت ثورة عبدالكريم قاسم بعد الفرهود بسبعة عشر عاماً لتضفي شئ من الحريات للاقليات والتي ساعدت على ظهور بعض شهود العيان من نبلاء البغداديين والمهتمين بذلك الحدث الجلل، فمنهم من وضع العدد بالمئات والجرحى اكثر من الف، وهناك من قال مائتين، ولكن الاقرب الى الواقع هو ماذكره تقرير الحكومة العراقية لحنة التحقيق في احداث 1-2 من حزيران عام 1941، ووثائق مركز ومتحف تراث يهود بابل (العراق)، اذ بلغ عدد اسماء الضحايا 147 مغدورا والعدد يتزايد كلما سمع بالقائمة احد من اقرباء ضحايا تلك المجزرة الرهيبة، أما رؤساء الطائفة الاسرائيلية كما كانت تسمى آنذا فقد قدرتم بـ179 قتيل، ومن المؤكد ان الجرحى كانوا بالمئات ناهيك عن اغتصاب النساء والاطفال، وتلك المقالات بقلم كبار المستشرقي والوثائق الرسمية والشفوية، نشرت في كتاب منقح من قبل البروفيسور شموئيل مورية والدكتور تسفي يهودا، ونشر هذا الكتاب باللغة العبرية بعنوان quot;كره اليهود والفرهود في العراقquot; الصادر عام 1992 من مركز التراث يهود بابل (العراق) الكائن في مدينة اور يهودا، وفي الكتاب الموسع باللغة الانكليزية :
، Al-Farhud، The 1941 Pogrom in Iraq، Edited by Shmuel Moreh and Zvi Yehuda، Jeruslem، The Hebrew University، 2010
وفي محاضرة القاها الكاتب والاديب الكبير ساسون صوميخ في جامعة وندربيلط في مدينة تنسي في الولايات المتحدة دون أن يدرك أن محاضرته تسجل تلفزيونيا، ذُكر دون ان يدعم شطحاته بوثائق وابحاث علمية تؤيد ادعاءه، بأن هناك مائتين مسلم بغدادي قتل في الدفاع عن جيرانه اليهود، ولكني ومع الاسف الشديد لم اعثر على اي وثيقة أو كتاب يوثق ذلك الكلام الجميل، لا من تقارير الشرطة والجيش، ولا من لجنة التحقيق التي أقامتها الحكومة العراقية لتقصي حقائق هذه الفاجعة الألبمة.ولا من مراكز ابحاث معتبرة، الإدعاء أن مائتي مسلم قتلوا في سبيلهم ما هو الا نسج من الخيال. وان كنت لا اريد ان ابخس بعض الهمم النبيلة من الغيارى العراقيين ان كانوا مسلمين او نصارى الذين كانوا قد دافعوا وحموا في بيوتهم واطعموا الكثير من جيرانهم اليهود، كما نعلم أن الكثير منهم لم يرض بتلك الاعمال الهمجية، ولكن لماذا لم يذكر المحاضر الموقر من تل ابيب، من هم الذين قتلوا مائتين مسلم في سبيل حماية جيرانهم اليهود؟ هل هم الرعاع من الذين نهبوا وسلبوا؟ وكيف لم توثق هذه البطولة لا من قبل السلطات العراقية ولا المؤرخين ولا الصحفيين؟ وقد دحض الاستاذ سليم فتال الاعلامي ومؤسس قسم البرامج العربية فی التلفزيون الاسرائيلي باللغة العربية، في كتابه quot;وثن في الحرم الجامعي الاسرائيليquot;، بصورة دامغة كل الافتراءات التي اوردها محاضر كان عليه مسؤولية التدقيق وذكر المصادر الموثوقة، لا ان يلقي الكلام على عواهنه، كصحفي يعدو وراء الشهرة الكاذبة،. اما والنتيجة التي توصلنا اليها فهي أن هذا الخبر الخطير كان من نسج خيال الكاتب الذي عودنا على شطحاته، في غمرة حماسه للأشادة بشهداء لم يكن لهم وجود مع احترامي وتقديري للكاتب والاديب الكبير ساسون صوميخ الذي ذكر مثل تلك الروايات التي لم يروها احد من قبل، بيد مسلمين آخرين متنازعين عندما تنازعوا فيما بينهم والتي لم اعثر على ما يوثقها، بل هناك من وثّق عن القتلى من المسلمين قائلا انهم اما قَتَل بعضهم البعض متنازعين حول غنائم اليهود كما حدث في الحروب مع quot;بني النضير وبني القينقاعquot; ! (كيف لا؟ ألم يغنموا من الشعبين الايراني والكويتي المسلمين في غزوهم لهم؟ فالقوم ابناء القوم )، والسبب الثاني هو اطلاق الشرطة والجيش العراقي النار عليهم من اجل كفهم عن اعمال النهب خوفاً من انتشارها بين ممتلكات المسلمين، وعموم الفوضى في البلاد ولا اراهُ كان دفاعاً عن اليهود، كما ان د. رشيد الخيون في كتابه quot;المباح واللا مباحquot;، والبروفيسور كاظم حبيب من برلين، quot;اليهود والمواطنة العراقيةquot;، وهما من كبار المؤرخين العراقيين اليوم، لم يذكرا شيئا في كتبهما الموضوعية العميقة عن الفرهود عن استشهاد 200 مسلم في الدفاع عن جيرانهم اليهود.
والدليل على هذا أن الأوامر بإطلاق النار جاءت متأخرة ولم تصدر إلا في اليوم التالي بعد مصرع مئات اليهود على مرأى ومسمع من قوات الأمن.
ويقول الدكتور نسيم قزاز المتخصص بتاريخ يهود العراق في شهادته التي اوردها في كتبه ومقالاته، إن الفرهود في جانب الرصافة بدأ في عكد الأكراد القريب من باب الشيخ عندما كان ووالده المرحوم ناحوم قزاز بصحبة شريك الوالد مئير خليف وأخيه نعيم في طريقهم عائدين الى محلة سكناهم في ططران بعد أن قاموا بزيارة لتفقد خيولهم في إسطبل على مقربة من باب الشيخ. وجاءعلى لسان الأستاذ نسيم قزاز قوله:
quot;قبع يهود بغداد في شهر أيار من عام 1941 والذي عرف عندهم بـquot;شهر رشيد عاليquot; في بيوتهم ولم يغادروها إلا لمسافات قصيرة وأماكن قريبة لدواع ضرورية كشراء ما يحتاجون اليه من مأكل أو لقضاء حاجات ملحة أخرى. وكان لوالدي جياد أصيلة أودعها باسطبل (طولة) حماد الشقرة القريب من باب الشيخ ولم نستطع طيلة الشهر من زيارة الخيل وتفقد أحوالها. وفي الأول من شهر حزيران وإثر هروب رشيد عالى ومفتي القدس الحاج أمين الحسيني وحاشياتهم من العراق، بشرت دار الإذاعة العراقية بعودة الوصي عبد الإله وطلبت من الأهالي الخروج والإحتفاء باستقباله فلبت جموع من مختلف الأوساط ورؤساء الطوائف الطلب ومن بينهم وجهاء الطائفة الإسرائيلية. وصادف أن يكون ذلك في يوم عيد يعرف عند اليهود بquot;عيدالشبوعوثquot; فذهب الكثير من اليهود إلى المنتزهات وإلى شواطيء دجلة ومحلات الترفيه بعد أسابيع من الإنكماش والكظم عانوا خلالها من اعتداءات بعض الرعاع وكتائب الفتوة الذين تعدوا عليهم في الشوارع والطرقات.وساقوا البعض منهم إلى مراكز الشرطة وألصقوا بهم تهم واهية لا أساس لها من الصحة. وقد لاقى البعض منهم حتفه قبل الوصول به إلى مقر الشرطة من جراء الضرب والركل والطعن بالسكاكين والخناجر.
أما نحن فذهبنا صباح ذلك اليوم المشؤوم لتفقد احوال خيلنا. كنا أربعة ndash; الوالد المرحوم وشريكه في دكان بيع الإبريسم بسوق القزازين المرحوم مئير خليف وأخوه نعيم وأنا. وكان عمري آنذاك 11 عاما. واستقلنا إلى الإسطبل عربانة قوﭺ (حنطور) تجرها الخيل. وتفقدنا الخيل وسمعنا أخبارها من حماد الشقرة صاحب الطولة وتجاذبنا أطراف الحديث معه ومع السياس ثم قفلنا راجعين في ساعات بعد الظهر. وسارت بنا سيارة ركاب (سيارة أم العانة) بدأت تشق طريقها في شارع غازي إلى ططران محلة سكنانا، ولكن عندما وصلنا منطقة عكد الأكراد اعترض طريقنا جمع غفير من الرعاع اضطر السائق على الوقوف، وعندها بادر المتجمهرون إلى باب السيارة حيث كان يجلس المرحوم مئير خليف وجروه من مقعده عنوة إلى الشارع وأشبعوه لكما وركلا. ولما راى الوالد ماذا يحدث قرر مغادرة السيارة متسللا من الشباك الخلفي والنزول إلى الشارع في الجهة المعاكسة التي كانت خالية من الرعاع، وحاولت الإلتحاق به ولكن السائق سارع بتحريك السيارة والهروب من المكان. وهكذا نجوت من موت محتم
وكان لنا في عكد الأكراد معارف وأصدقاء وكانت نساء هذا الحي يشتغلن عاملات بتسليك الأبريسم (إﭼيات) وكثيرا ما كنت أجلب لهن وجبات من الإبريسم ثم أعود لأخذها بعد التسليك. ولا شك عندي أن الوالد عندما قرر النزول من السيارة كان يفكر بإنقاذ شريكه ظانا أن أصدقاءه ومعارفه في هذا الحي سيستجيبون له وينقذوا شريكه. ولكن مع الأسف لم يفلح في مسعاه هذا ولم نره بعدها بين الاحياء الى اليوم. وهكذا كان الأثنان من أوائل ضحايا الفرهود الذي بلغ عددهم ما يقارب ال150quot; يهوديا لاقوا مصرعهم في شوارع بغداد وفي محلات سكناهم وفي عقر دورهم من دون أثم اقترفوه سوى كونهم يهوداquot;.
فالقصة لها اسباب دولية منها الانقلاب النازي في العراق بواسطة رشيد عالي الكيلاني المسمى عراقياً بـ (دگة رشيد عالي) في شهر أيار من العام نفسه لمجازر الفرهود، ولا ننسى دور المانيا النازية بتأجيج كره اليهود والشوفينية وذلك عن طريق سفارتهم في بغداد ما بين 1932 و 1941 بوجود مندوبهم النازي انذاك في العراق الدكتور فريتز غروبا والالمانيات الحسناوات اللواتي عملوا معه في نشر الاراء النازية بين ضباط الجيش والشرطة وبعضهن تزوجوا بعراقيين، وشراء جريدة العالم العربي التي بدأت بنشر كفاحي لهتلر ومقالات كثيرة مضادة لليهود ولتأليب الرأي العام العالمي المحلي ضدهم، وكذلك انهم اول من انشأ الفُتُوة على غرار فُتُوة هتلر، والمؤلم اكثر في هذا الموضوع الانساني هو تلك المؤامرة المتمثلة في ذلك الصمت الاعلامي الرهيب من العرب والعالم اجمع بل وحتى اسرائيل التي تدعي الدفاع عن يهود العالم.
وكذلك نرى ويا للأسف أن متحف الهولوكوست في لوس انجلوس يخلو من اي ذكر للهولوكوست العراقي! لماذا؟ لذا فنحن العراقيبن نطالب المسؤولين عن ذلك المتحف الانساني الذي ايدناه لما فيه من دفاع مشروع عن كرامة الانسان، وذلك بواسطة تذكير العالم بما حدث لستة ملايين انسان من حرق وقتل بالرصاص والغازات السامة، وتعذيب ومسخ للكرامة البشرية، ونتمنى ان يكبر ذلك المشروع ليكون يوماً مناراً لكل محبي الانسانية وان نرى له فروعاً في كل العواصم ذاكراً كل المحارق والمقابر الجماعية وخصوصاً الصدّامية منها في العراق، ونطالبهم بأن يخصصوا ولو زاوية صغيرة او جانب على احد جدران ذلك الصرح العظيم لنكتب عليه ما جرى ليهود العراق في ذلك الفرهود كون ذلك هو جزء من جرائم الهولوكوست المروعة وعلى يد من آمن بالفكر الهتلري الشاذ والبعيد عن كل ما هو انساني، وان تكون نفقة ذلك على عاتقنا نحن العراقيين ولا نريد ان نكلف القائمين على المتحف اي كلفة مادية، لنثبت للعالم اننا شعب حي كريم لا ينسى اخوانه وشركائه في الوطن الذين عانوا الامرين ولو بعد حين. من الفكر النازي المجرم ومن لف لفه من الدكتاتوريين المحدثين النازيين، ولو بعد حين.
التعليقات