دعيتُ إلى المحاضرة فى الملتقى الثقافى العربى فى لندن بتاريخ 12 أكتوبر بعنوان (مع على الوردى فى كتابه وعاظ السلاطين). وفعلا كانت القاعة مليئة والحضور كبيرا بحضور متميز من المثقفين والكتاب العرب والمداخلات والمناقشات الثرية والهامة للكثير منهم مما فتح آفاقا واسعة وكبيرة.

لا شك أن أهمية الوردى وكتابه مهمة الآن بسبب سيطرة التيارات الإسلامية الحاكمة خصوصا بعد ما يعرف ويسميه البعض ب (الربيع العربى) فقد فاز الإخوان المسلمون فى مصر وصار رئيس الجمهورية محمد مرسى (مبارك) بعد محمد حسنى مبارك، كما فاز فى تونس حركة النهضة الإسلامية فضلا عن سيطرة الإسلام السياسى فى العراق وحكم ولاية الفقيه فى إيران ودور الإسلاميين فى الساحة السياسية فى الكثير من العالم العربي.

كتب عالم الإجتماع العراقى على الوردى (1913-1995) كتابه المتميز (وعاظ السلاطين) ناقدا الوعاظ فى فكرهم وسلوكهم ووعظهم وتواطئهم مع السلاطين ضد الفقراء والمحرومين ليكونوا طبقة مترفة غنية تستغل الدين لمصالحها. كانت ردود الفعل كبيرة جدا حيث صدرت فى نفس تلك السنة خمسة كتب وعشرات المقالات ردا عليه، وصار حديث المجالس والنوادى والمنتديات. مما حدى بالوردى أن يكتب (مهزلة العقل البشرى) رادا على نقودهم وآرائهم لاسيما رجل الدين مرتضى العسكرى فى كتابه (مع الدكتور على الوردى) وكذلك محمد صالح القزوينى فى (الموعظة الحسنة) وغيرهم
وفى تأثير الوعظ على العرب بعيدا عن واقعهم وحياتهم يذكر الوردى (إن المفكرين العرب قد حلّقوا فى سماء الوعظ كثيراّ، فلم يقرّبوا أسلوب وعظهم من أسلوب الواقع الذى يعيشون فيه. وبهذا أصبحت هناك فجوة واسعة بين واقعية الحياة ومثالية الفكر عندهم) وكذلك الهوة بين مثقفيهم وشعوبهم وكان للبداوة وقيمها تأثير كبير عليهم كما يقول الوردي.

إنّ رجال الدين والوعاظ هم أبعد الناس عن موعظتهم وأحرص الناس على الدنيا والمال والجاه وعلاقته بالسلطان والمترفين فكانت لهم سلطة وسطوة من السلطان الطاغية، فقال الوردى (والغريب أن الواعظين أنفسهم لايتبعون النصائح التى ينادون بها فهم يقولون للناس (نظفوا قلوبكم من أدران الحسد والشهوة والأنانية) بينما نجدهم أحرص الناس وأكثرهم حسدا وشهوة وأنانية وحبا للدنيا). يقول الوردى: (ويبدو لى أنّ هذا هو دأب الواعظين عندنا، فهم يتركون الطغاة والمترفين يفعلون ما يشاؤون ويصبّون جلّ اهتماماتهم على الفقراء من الناس فيبحثون عن زلاتهم، وينغصون عليهم عيشهم وينذرون بالويل والثبور فى الدنيا والآخرة. وسبب هذا الوعظ فى التحيز في ما اعتقده راجع إلى أن الواعظين كانوا ولا يزالون يعيشون على فضلات موائد الأغنياء والطغاة. فكانت معايشهم متوقفة على رضى أولياء أمره وتراهم لذلك يغضّون الطرف عما يقوم به هؤلاء من التعسف والنهب والترف ثم يدعون لهم فوق ذلك بطول العمر). وهكذا يكون الوعاظ مع الطغاة والمترفين ضد الفقراء ومعيشتهم عليهم فتجد الوعاظ مترفين كالمترفين.

نبيل الحيدري

يعتبر الوردي دور الوعاظ هو تخدير الناس واستغلالهم، وهكذا كان استغلال الحكام للوعاظ ونسيان الناس للظلم الكبير فيتحول إلى ظلم بعضهم بعضاً. فيقول: (ويخيل إلى أن الطغاة وجدوا فى الواعظين خير عون لهم على إلهاء رعاياهم وتخديرهم؛ فقد انشغل الناس بوعظ بعضهم بعضا فنسوا بذلك ما حلّ بهم على أيدى الطغاة من ظلم). وعندها حدّد الوردى دور الوعاظ بالتخدير والإلهاء. ويرفع الواعظ المسؤولية عن الكاكم الظالم ويلبسها الفقير البائس بسبب ذنوبه ومعاصيه وكيفما يكونوا يولّى عليهم وعلى الناس الإستغفار والتوبة ويقول الوردى (إن مشكلة الوعاظ عندنا أنهم يأخذون جانب الحاكم ويحاربون المحكوم. ويهتف الواعظ بالناس قائلا (إنكم أذنبتم أمام الله فحقّ عليكم البلاء من عنده والواعظ بذلك يرفع المسؤولية عن عاتق الظالمين غيضعها فى عاتق المظلومين أنفسهم فيأخذون بالتوبة والإستغفار). وهذه ازدواجية من وعاظ السلاطين فى قلب الظالم مظلوما والمظلوم ظالما.

كذلك كان جملة من الشعراء والكتاب وأمثالهم من وعاظ السلاطين حيث جعلوه ظل الله فى الأرض وكل الويل لمن يعارضه ببنت شفة فهو زنديق يستحق القتل. وجاء شاعر إلى السلطان قائلا (كأنك بعد الرسول رسول) وتقدم شاعر ثان وقال
ما شئت لا ما شاءت الأقدار hellip; فاحكم فأنت الواحد القهار
وهو بهذا جعله إلها واحدا قهارا

ووصف أحدهم سلطانا (أنت ظل الله الممدود بينه وبين وخلقه) بينما دخل خمسون شاعرا لمدح قصر لأحد السلاطين، كذلك قام خمسون شاعرا برثاء لموت حمار لأحد هؤلاء السلاطين
كان الوعاظ يحرمون كل جديد وتطور على أساس أنه من بلاد الكفار ثم تجدهم يرضخون لذلك يقول الوردى (رأينا الوعاظ يحرّمون دخول المدار الحديثة ثم أدخلوا أولادهم زرافات ورأيناهم يحرّمون استماع المذياع ثم دخل إلى بيوتهم ) وهكذا يظهر بعدهم عن الحياة والتطور وسوء فتاواهم فى تحريم الجديد.

بات الوعظ مهنة مربحة لكل فاشل فى الحياة والمدارس ليحفظ بعض الآيات والأحاديث ويلبس العمة كما قال الوردى (لقد صار الوعظ مهنة تدرّ على صاحبها الأموال وتمنحه مركزا إجتماعياً لا بأس به. وأخذ يحترف مهنة الوعظ كلّ من فشل فى الحصول على مهنة أخرى. إنها مهنة سهلة على أى حال فهى لاتحتاج إلا إلى حفظ بعض الآيات والأحاديث وارتداء الألبسة الفضفاضة التى تملأ النظر وتخلبه. ويستحسن فى الواعظ أن يكون ذا لحية كبيرة كثة وعمامة قوراء. ثم يأخذ بعد ذلك بإعلان الويل والثبور على الناس فيبكى ويستبكى ويخرج الناس من عنده وهم واثقون أن الله قد رضى عنهم وبنى لهم القصور الباذخة فى جنة الخلد ويأتى المترفون والأغنياء والحكام فيغدقون على هذا الواعظ المؤمن ما يجعله مثلهم مترفا سعيدا) وهكذا يصير واحدا من المترفين.

ولشدة نقد الوردى للوعاظ والسلاطين فقد أصدر الوعاظ فتاواهم ضد الوردى وشنعوا عليه فى الحسينيات والمآتم والجوامع وذهبت وفودهم الدينية إلى وزارة العدلية لإقامة الدعاوى ضد (الكافر الزنديق على الوردى) وحرّضوا الوعاظ حتى قال أحدهم المبرزين (هنالك ثلاثة أمور تؤدى إلى فساد البلاد هى القمار والبغاء وعلى الوردى)، كما نقله الوردى نفسه فى كتابه (مهزلة العقل البشرى) الصفحة 355.

اليوم صعد الوعاظ إلى السلطة وصاروا سلاطينا ففى إيران يرأسها واعظ من ولاية الفقيه يترأس ويستبد بكل السلطات الثلاث فضلا عن غيرها فى تعيين رئيس الإذاعة والتلفزيون والحرس الثورى والجيش وغيرها كذلك فى العراق يصبح روزخان واعظ حملة الحج رئيسا للوزراء ويأتى بفريق حملة الحج فى أعلى مرافق الدولة وبشهاداتهم المزورة ليسرقوا البلاد والوزارات وأما فى مصر وتونس ففى صعود الإسلام السياسى قمة الهرم واضح من الإخوان المسلمين وحركة النهضة الإسلامية كما وصل الإسلاميون فى المغرب إلى رئاسة الوزراء ولايخفى دورهم فى غيرها من الدول العربية والإسلامية مما يقودنا إلى الردة الحضارية والفكرية والثقافية فى تحريم الإبداع والفلسفة والفكر والفن والعلم وإرجاعنا عشرة قرون فيما هو أشبه بحكم الكنيسة فى الغرب ومنع الحريات والإبداع والقرون المظلمة وصكوك الغفران ومحاكم التفتيش وعدم قدرتهم على التنمية والإزدهار والحقوق والحريات والحداثة ومحاربة كل مفكر حر أبى بحج واهية وبغطاء دينى وعصا التكفير شاهرة
وكما قال المعرى
أرى العنقاء تكبر أن تصادا... فعاند من تطيق له عنادا
طموح السيف لايخشى إلها... ولا يرجو القيامة والمعادا