اتخذ مجلس الوزراء في العراق يوم الثلاثاء 6 / 11/ 2012، قرارا مفاجئا بالغاء نظام البطاقة التموينية وتعويض المواطنين بمبلغ مالي زهيد في استبدال البطاقة التموينية بمبلغ 15 ألف دينار ابتداء من اذار العام المقبل، فيما أكدت اللجنة الاقتصادية البرلمانية انها ستعقد اجتماعا طارئا لبحث تداعيات القرار الذي وصفته بالمفاجئ.
لقد شكلت البطاقة التموينية في العراق، والتي توصف بأنهاquot; سلة الشعب الغذائيةquot;، واحدة من أكثر القضايا التي أثارت وتثير إهتمام العراقيين وقلقهم من محاولات تقليصها ومخاوفهم من إلغائها ، وبشكل سيقود إلى تجويعهم بعد أن ظلت مصدر تموينهم الرئيس منذ فرض الحصار الاقتصادي الجائر على العراق ، وحيث يحذر خبراء اقتصاديون عراقيون من الرضوخ لرغبات البنك الدولي بإنهاء عمليات الدعم الحكومية للكثير من القطاعات التي يحتاج إليها العراقيون، وهو ما سيؤدي الى نتائج خطرة وعلى كل المستويات.
وكان نظام توزيع الحصص الغذائية المعروف بنظام التوزيع العام قد بدأ بقرار رقم 986 عام 1995 في إطار برنامج النفط مقابل الغذاء الذي وضعته الأمم المتحدة في إعقاب الاجتياح العراقي للكويت عام 1990. وقد استفاد حوالى 80 % من العراقيين من نظام التوزيع خلال حكم صدام حسين، حيث شكلت الحصص الغذائية المصدر الوحيد لاحتياجات حوالى 60 % من العراقيين. لكن هذا النظام أخذ يشهد تدهورًا واضحًا منذ الحرب الاخيرة التي قادتها الولايات المتحدة على العراق عام 2003 بسبب ضعف الدولة وانعدام الأمن والفوضى وسوء الإدارة وانتشار الفساد والرشوة.
ومنذ أن انطلقت تصريحات رسمية ودعوات مستعجلة الى إلغاء البطاقة التموينية أو تعريضها ببدل نقدي أو بتخفيض نصف مواد البطاقة التموينية، بات ارتفاع أسعار السلع والخدمات في العراق ظاهرة طاغية على حياة المواطن اليومية في ظل أزمات متكررة تشهدها السوق المحلية من دون توافر المعالجات لها. وفي الوقت الذي يرجع البعض أسباب ارتفاع الأسعار الى العرض والطلب على السلع نتيجة فقدان بعضها، يشترك التجار والموزعون ووكلاء المواد الغذائية وكذلك وزارة التجارة في ارتفاع الأسعار وكل جهة تضع المسؤولية على الجهة او الجهات الاخرى دون اعتراف أي طرف منهم بتحمل ولو جزء من المسؤولية.
وقد اظهراعلان quot;استراتيجية التخفيف من الفقرquot; التي اصدرها الجهاز المركزي للاحصاء وتكنولوجيا المعلومات التابع لوزارة التخطيط بالتعاون مع البنك الدولي والذي اقره مجلس الوزراء في تشرين الثاني 2009، بان 22,9 % من السكان، أي ما يقرب من 7 ملايين شخص هم تحت خط الفقر. ورغم التحسن النسبي في مداخيل موظفي الدولة، فان ربع سكان العراق تقريبا ما زالوا يعيشون في ظروف فقر وحرمان في دولة ريعية تطفو على النفط. وهذا يعني بان هناك خطورة من حدوث quot;مجاعةquot; في العراق لو تم إلغاء البطاقة التموينية في الوقت الحالي،لان 15 ألف دينار عراقي لا تكفي لسد رمق العاطلين عن العمل ، وعلى الحكومة مراجعة هذا القرار الخطير ووضع quot;خطة عقلانية وموضوعية توجه فعلا الى من يحتاجها من دوي الدخول الضعيفة، او استبدالها ببدائل جديدة وبالتدريج، لأن العوائل الفقيرة وفئة الموظفين الصغار وذوي الدخول المحدودة وغيرهم سيكونون اكثر الضحايا تأثرًا بقرار إلغاء هذه البطاقة او تقليل موادها، لأن مدخولاتهم الشهرية لم تعد توازي مستوى ارتفاع الاسعار في الاسواق المحلية ، مع تفاوت في مستوى الدخل والتدهور المتواصل في الخدمات الاساسية.
وكانت وزارة التخطيط قد قدمت دراسة تقضي بايقاف العمل بالبطاقة التموينية وتعويض الفرد العراقي بمبالغ نقدية على ان يجري تطبيق المقترح في عدد من المحافظات اولا، كما تبنى مركز الاصلاح الاقتصادي دراسة مماثلة تقضي بتغييرها من التوزيع العيني الى النقدي وحصول المواطن على كامل حقوقه على ان تقوم الحكومة بإغراق السوق بالمواد الداخلة ضمن الحصة التموينية لمنع احتكارها وارتفاع اسعارها. كما ان منظمات المجتمع المدني أقامت مؤتمرًا لمناقشة قرار حجب بعض مفردات هذه البطاقة حضره العديد من منظمات المجتمع المدني والتيارات السياسية مهددين بالعصيان المدني إذا لم تتراجع الحكومة المركزية عن قرارها. كما حذر خبراء اقتصاديون من أن تجاهل الحكومة معاناة المواطن سيفاقم حالة الفوضى في السوق خصوصًا في ظل مخاوف الغاء وزارة التجارة للبطاقة التموينية لأن ذلك يعني اختلالاً في موازنة الأسرة، خصوصا في ما يتعلق بوقف توزيع حليب الأطفال لأن ذلك سيعرض العديد من الأسر الفقيرة للخطر.
والمفروض من الحكومة القيام اولا بعدد من الإجراءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتخفيف الأعباء الثقيلة عن كاهل الطبقات الاجتماعية المسحوقة التي تشكل البطالة في أوساطها اكثر من 57%. ومن جهة اخرى يحتاج المواطن الى وقت ليس بالقصير لتهيئة الاجواء وتوفير جميع المستلزمات الضرورية للاستغناء التدريجي عنها وتشريع قوانين للضمان الاجتماعي والصحي توفر لكبار السن والمرضى والعجزة والاطفال والفقراء والمحتاجين. وهذا يحتاج الى مسح شامل يعتمد أسسا علمية قويمة.
وعلى الحكومة قبل الاقدام بالمس بالامن الغذائي للشعب، عليها اتخاذ العديد من التدابير والاجراءات اللازمة التي قد تستغرق مدة طويلة، كتنشيط الاقتصاد العراقي وتفعيل ميادينه واعداد برامج علمية لتنمية الزراعة ورفع مستوى الفلاحين وتنشيط الصناعات الزراعية والصناعات والحرف وتحجيم ظاهرة البطالة والبطالة المقنعة المتفشية وتحقيق طفرات نوعية في المستوى الاجتماعي والمعاشي لأوسع الشرائح الاجتماعية التي تعاني من الفاقة والحرمان قبل الاقدام على أية خطوة في هذا المجال.
ومن المفارقة انه رغم أهمية وضرورة البطاقة التموينية التي يعتمد عليها ملايين الفقراء في العراق، فانها تقوم بدور سايكولوجي فعال. فبالاضافة الى انها تسكت أفواه العراقيين الجائعة، الا انها تساعد على الخضوع وتوليد الشعور بقوة الدولة وسلطتها وتسلطها على رقاب الناس وضرورة الخضوع لها طوعا او كرها من جهة، وابقاء شرائح واسعة من العراقيين quot; تنابلةquot; غير منتجين ينتظرون رحمة الدولة الريعية التي تضع الطعام في افواه رعاياها القاصرين من جهة اخرى. وهو ما يدعونا الى النظر الى هذه المشكلة المعقدة بمنظار علمي وعقلاني وليس عاطفيا ورومانطيقيا.