النظام الابوي البطريركي هو بنية اجتماعية متميزة ناتجه عن شروط وظروف تاريخية واجتماعية وثقافية تتكون من سلسلة من المراحل التاريخية والتشكيلات الاجتماعية المترابطة فيما بينها حيث ترتبط كل مرحلة منها بمرحلة انتقالية تسبقها حتى تصل الى مرحلة النظام quot;الابوي الحديثquot;. ومن الناحية البنيوية فالنظام الابوي يتكون من طرائق التفكير والعمل والسلوك ويرتبط بنمط معين من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي التقليدي السابق على الرأسمالية. وهو يتخذ من المجتمع العربي شكلا نوعيا متميزا يقابل المجتمع الحديث، من خصائصه قابليته على الاستمرار وعلى مقاومة التغير والمحافظة على القيم والعصبيات العشائرية والاعراف التقليدية القديمة.
وعلى الصعيد الاجتماعي يهيمن النظام الابوي على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تغلب عليها الانتماءات القبلية والطائفية والمحلية، لان المجتمع الابوي هو نوع من المجتمعات التقليدية التي تسودها انماط معينة من القيم والسلوك واشكال متميزة من التنظيم. وهو يشكل بنى نوعية متميزة تتخذ اشكالا مختلفة من بينها بنية المجتمع الابوي العربي، الذي هو اكثر ابوية واشد تقليدية واكثر محاصرة لشخصية الفرد وثقافته وترسيخا لقيمه واعرافه الاجتماعية التقليدية وتهميشا للمرأة واستلابا لشخصيتها، لانه ذو طابع نوعي وامتداد تاريخي وخصوصية ترتبط بالبيئة الصحراوية والقيم والعصبيات القبلية التغالبية.
ومن المعروف ان العالم العربي هو اعظم موطن للبداوة مثلما هو اكثر مناطق العالم تأثرا ومعاناة في الصراع بين قيم البداوة وقيم الحضارة، كما اشار الى ذلك علي الوردي، ذلك الصراع الذي ما يزال يؤثر في بنية الثقافة وسمات الشخصية العربية .
تمتد جذور النظام الابوي العربي الى النظام القبلي الذي يقوم على صلة الدم والقربى والعصبية القبلية، وتكون من شروط تاريخية وجغرافية وثقافية وذلك عن طريق سيطرة الثقافة البدوية على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عن طريق نظام القبيلة ( المشيخة) الذي كان بديلا للدولة وادارتها كتنظيم اجتماعي يقوم على العلاقات العشائرية. وبالرغم من ان الاسلام حاول تغيير البنية القبلية وجاء بمفهوم quot;الامةquot; بديلا لمفهوم العصبية القبلية، الا ان النظام القبلي بقي مهيمنا على المجتمع والدولة حيث استمرت القيم والتقاليد في تأثيرها على العلاقات الاجتماعية. كما استمرت الصحراء العربية برفد القرى والارياف بموجات بدوية مستمرة خضع لها سكان الارياف والمدن وتأثروا بقيمها واعرافها وعصبياتها وذلك بسبب ضعف الدولة المركزية، بعد سقوط الدولة العربية ـ الاسلامية وعاصمتها بغداد على يد هولاكو عام 1256 مما سبب هيمنة النظام القبلي والمحلي على المجتمع وبصورة خاصة على بنية العائلة الممتدة في علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية واستمرت حتى العصر الحديث بشكل او بآخر، بالرغم من دخول كثير من عناصرالتحديث اليها، لان الدولة الحديثة ما زالت لم تكتمل وتنضج ، وكذلك مفهوم الوطن والمواطنة والهوية ، التي ما زالت مفاهيم هلامية اولا ، ولان تركيب بنية العائلة العربية في شكلها الأولي لا يختلف كثيرا عن تركيب بنية القبيلة العربية لعصر ما قبل الاسلام، الا في بعض مظاهرها الخارجية التي تأثرت بالتحديث، وليس في سلوكها ومضامينها وقيمها وذهنيتها ثانيا. كما ان النظام الابوي هو بنية سايكولوجية ناتجة عن شروط تاريخية وحضارية نوعية تكونت من مجموعة من القيم والاعراف وانماط من السلوك التي ترتبط بنظام اقتصادي تقليدي له خصوصية وبواقع اجتماعي حي، وليس مجرد خاصية من خواص نمط انتاج معين بالعالم العربي.
ومن اهم خصائص النظام الابوي التقليدي انه يقوم على العصبية القبلية وتماهي الفرد مع القبيلة التي تبادله الولاء بوصفها مسؤولة على الصعيد الاجتماعي والسياسي عن كل فرد من افراد القبيلة، وهو ما يؤدي الى تعزيز النظام القبلي القائم على العصبية، الذي يجعل من العائلة حجر الزاوية في البنية الاجتماعية كما تفترض ان بنية القبيلة هي quot;كلquot; لا يمكن تجزئته باعتبارها عائلة موسعة او عشيرة او مجموعة من العشائر التي تكون القبيلة، التي تعزز كيانها بسيطرة مزدوجة : سيطرة الاب على العائلة وسيطرة الرجل على المرأة والولد على البنت، بحيث يبقى الخطاب المهيمن هو خطاب الاب الذكر واوامره وقراراته.
وقد اتخذت quot;الأبوة quot; صفتها من صلة القربى والدم وضرورة احترام الابن لابيه والقيام على خدمته. ولا زالت تقاليد تقديم الابن فروض الطاعة لابيه واحترامه مستمرة حتى اليوم. كما ان احترام الابن لابيه هو الاحترام نفسه لعشيرته مركزا في شخص واحد يمثلها هو شيخها. وفي الحقيقة فان سلطة الاب ما هي الا مظهر فردي لسلطة القبيلة. ورغم مرور مئات السنين بقي المجتمع العربي مجتمعا قبليا يتكون من وحدات اجتماعية اساسها القرابة التي تتمثل بالعائلة، التي هي جزء من الحمولة فالفخذ فالعشيرة فالقبيلة فاتحاد القبائل الذي يشكل المجتمع باوسع صوره.
وتتكون الاسرة العربية من عدة عوائل عموما، وهي اسرة ممتدة كبيرة الحجم التي تشكل السمة الاساسية لبنية العائلة العريبة حتى منتصف القرن الماضي وتضم كل المتحدرين من جد ذكر واحد وينصهرون في وحدة واحدة ويحمل جميع افرادها اسم الجد الاول للاسرة.
وفي الارياف العربية ترتبط بنية العائلة ارتباطا وثيقا باسلوب الانتاج الاقتصادي السائد والعلاقات الاجتماعية التي تشكل الارض والزراعة ركيزتها الاولى والاساسية، وتعكس بشكل واضح بنية النظام القرابي الذي يقوم على التضامن والتماسك والتعصب العائلي في مواجهة المشاكل والاعباء والصراعات مع العوائل الاخرى ومع الحكومات وغيرها. ولذلك تحتاج العائلة الى تكثير النسل لرفد الارض بايدي عاملة ذكورية كثيرة والزواج المبكر ومن داخل العائلة (ابن العم وابنة العم) وكذلك تعدد الزوجات التي تفرضها وحدة العمل في الارض.
وهكذا بقيت العائلة العربية الممتدة حتى وقت قصير تشكل وحدة اجتماعية انتاجية بفعل استمرار الظروف والشروط البنيوية لتطورها حتى نهاية القرن التاسع عشر.
ومن المظاهر السلوكية التي ما تزال تفعل فعلها في اعادة انتاج العلاقات القرابية ، هو الميل الى التقارب السكني في منطقة واحدة او مدينة واحدة اوفي محلة واحدة وتوثيق علاقات القرابة بحضور المناسبات العائلية المختلفة وبخاصة في مناسبات الزواج والاعياد والوفيات وغيرها.
وما زال الزواج الداخلي يشكل النموذج المفضل لدى كثير من العوائل العربية الممتدة. كما يمتد النظام الابوي ـ البطريركي العربي الى تشكيلات السلطة التي ما زالت تعتمد على النفوذ العائلي، وما زالت التكتلات العائلية والعشائرية والطائفية تلعب دورا هاما وبارزا في كثير من القرى والارياف وحتى في بعض المدن العربية. وليس من النادر ان نجد افراد قبيلة واحدة اوطائفة واحدة اومدينة واحدة او منطقة واحدة يسيطرون على السلطة والدولة والمجتمع ويتحكمون في رقاب الناس. وهذا دليل على ان السلطة الابوية ترتكز على العائلة الممتدة، التي هي النمط القرابي السائد، الذي يمتد الى النظام السياسي الحديث و يستمد شرعيته من كونه نظاما قرابيا ابويا يطرح الحاكم نفسه فيه على انه quot;الاب القائدquot; وان جميع افراد الشعب هم ابناءه، وعليهم جميعا واجب تقديم الطاعة والولاء والخضوع له دوما، وفي ذات الوقت ينتظر quot;الاب القائد quot; من ابنائه الولاء المطلق له. ان هذه العلاقة التي تتحكم بين الرئيس والمرؤوس، في العائلة والقبيلة والطائفة والدولة، هي شكل من السيطرة الابوية الهرمية التي تقوم بين الحاكم والمحكوم .
ويرتبط بالنزعة الابوية الاستبدادية مشاكل وتحديات واجهت المسألة السياسية التي ما زالت مطروحة حتى الان، حيث بقيت الحرية وأزمة الدولة والسلطة دونما حل لتحديد العلاقة بين الحاكم والمحكومين وبقيت مجرد أمنية بعيدة عن التحقيق. ومعنى ذلك ان المسألة السياسية لم تكن تشكل محور سؤال النهضة ما عدا بعض الارهاصات النظرية ، كما جاءت عند عبد الرحمن الكواكبي وابن أبي الضياف التونسي والحسني النايني، التي بقيت حبرا على ورق . ومنذ استقلال الدول العربية والسعي لتحقيق الدولة القومية ذات المضمون الاجتماعي- السياسي وتأسيس قواعد قانونية ثابتة تقوم اساسا على الفصل بين السلطات والعدالة والمساواة امام القانون وتحقيق المواطنة الحرة، مازال العالم العربي يشهد تغيبا شبه كامل لمثل هذه القواعد القانونية والدستورية، بل وانحسارا كبيرا في شرعية السلطة والتفرد بها وبصنع القرار، مما يفسح المجال الى اعادة انتاج، بل وترسيخ ما قبل الدولة القومية بمكوناتها الاثنية والقبلية والطائفية وتحول الولاء اليها على حساب الوطن والدولة والهوية الوطنية. وهذا يعكس في الواقع تناقضا صارخا بين المبادئ المثالية التي وضعها رواد النهضة لقيام دولة حديثة وبين تطبيقاتها العملية في الواقع.
ويعود الفشل في الحقيقة الى ان المشروع القومي كان مجسدا في شخصية قانونية وليس اعتبارية، لذلك لن يكون من السهل تحقيقه بالشعارات االرومانتيكية، وانما بإرادة الشعوب العربية المشروطة بتجاوز التناقضات الداخلية، الاثنية والدينية والقبلية والطائفية، التي تنخر في جسد المجتمعات العربية وحتى في الدولة القطرية المصطنعة. وقد اعتبر قسطنطين زريق، وهو من كبار المفكرين القوميين العرب، عن قلقه وتوجسه من اشكالية الاندماج القومي والوطني والمجتمعي الهش في العالم العربي وعدم الاعتراف بالتعدد والتنوع الاثني والديني والطائفي في الواقع العملي، الى جانب الفراغ المؤسساتي الذي ارتبط بالنزعة الابوية الاستبدادية وعدم الاخذ بطموحات الثقافات الفرعية الاخرى. فبالرغم من مرور اكثر من نصف قرن على استقلال الدول العربية الشكلي، مازلنا نعيش وهم الدولة القومية، بعد ان تحولت الى انظمة استبدادية فردية، ملكية كانت ام جمهورية، قومية اويسارية او اسلامية، تنعدم فيها ابسط الحريات الفردية ولا يستطيع المواطن فيها تخطي الخطوط الحمراء التي تضعها الانظمة المستبدة والتي ترتبط بالمقدسات والمحرمات والاعراف والعصبيات العشائرية. quot; لقد ضحى العرب بقضية الحرية والديمقراطية في سبيل الاستقلال والوحدة، فخسروا الوحدة والاستقلال والحرية والديمقراطيةquot;.
والحال، كان من نتائج الاستبدادية والتخلف وقمع الحريات هذه الردة الحضارية التي يعيشها العالم العربي اليوم، التي انتجت دول بوليسية تتسلط بالقوة والبطش على جميع مؤسسات الدولة والمجتمع بإديولوجيتها الشمولية وتحتكر السلطة للهيمنة على المنظومات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وكذلك القوى الاجتماعية باسم الامة والشعب والقانون وكذلك تماهي الرؤساء الى رموز تأليهية تعلو على المراقبة والمحاسبة، مستخدمة جميع ادوات القوة والقهر لاخضاع الافراد واجبارهم على الطاعة والخضوع .
التعليقات