أيهما له الأولوية: ثقافة الديمقراطية أم آلياتها؟
تثير الاحباطات المتتالية التي واكبت ثورات الشباب العربي تساؤلات عدة حول نتائج الانتخابات التي جرت حتى الان في كل من تونس والمغرب ومصر. والمفارقة هي ان ما زرعه الشباب بدمائهم واجسادهم وارواحهم كان قد حصده الآخرون. ففي تونس والمغرب ومصر وصل الأخوان المسلمين الى السلطة عن طريق الانتخابات. ويحاول المجلس العسكري المصري مشاركة الاخوان المسلمين قطف ثمار ما زرعه الشباب بدمائهم في ساحة التحرير. كيف يمكن للباحث الاجتماعي تفسير ذلك؟ وهل تكفي مجرد الانتخابات للوصول الى السلطة والحصول على الشرعية؟!
هذه الاشكالية لها أهمية استثنائية للظروف المعقدة التي التي تمر بها الدول العربية اليوم وما استجد من تغيرات وتحولات بنيوية عميقة الاثر والتاثير في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وذلك بسبب التركة الثقيلة التي تركتها الانظمة الاستبدادية الشمولية من تخلف وقمع وتوزيع غير عادل للثروة والقوة وتدمير للدولة والمؤسسات المدنية وعدم احترام حقوق الانسان مما عرض المجتمع والثقافة والهوية الى انتهاكات وتدمير ذاتي.
كما اثارت هذه الاشكالية تساؤلات عديدة في مقدمتها : هل يمكن تطبيق ديمقراطية حقيقية من دون تربة ديمقراطية وثقافة ديمقراطية وديمقراطيين واعين يؤمنون بها ويلتزمون بممارستها؟

ولكن ما هي العلاقة بين الثقافة والديمقراطية؟
قبل كل شيء ما هي الثقافة؟ الثقافة هي طرائق التفكير والعمل والسلوك التي يكتسبها الفرد باعتباره عضو في مجتمع، بحيث يستطيع بموجبها التكيف والتلائم مع المحيط الطبيعي والاجتماعي. فهي اذن مجموعة مترابطة ومتشابكة ومتداخلة من انماط التفكير والعمل والسلوك التي تؤلف الادوار التي تحدد السلوكات المنتظرة من مجموع افراد المجتمع. والتي تقوم على آليات تأسيسية مختلفة كاللغة والتربية والقيم والعادات والتقاليد والاعراف والطقوس ووسائل الاتصال والمعاني الرمزية وغيرها التي تتراكم عبر الاجيال وتكون لها صفة معيارية من الصعب الانحراف عنها وذلك لوجود جزاءات اجتماعية تطبق تلقائيا عند الخروج عليها. وبهذا تصبح الثقافة ذاكرة المجتمع الشعورية واللاشعورية.
والثقافة مكتسبة وتكتسب بالتعلم ومن خصائصها انتظام سياقها واستجابتها للبيئة الطبيعية والاجتماعية، وفق اشكال التقنية المتاحة. ومن هنا نجد ان سلوك الفرد غالبا ما يتطابق مع الثقافة السائدة.
وعملية اكتساب الثقافة (التثاقف) تبدأ منذ الطفولة ولا تنتهي الا بالموت. وخلال عملية التثقيف ينزع الفرد الى تبني quot; الشخصية النموذجيةquot; التي يرغب بها المجتمع. والتي تحدد سمات وخصائص الشخصية الاجتماعية.
فالشخصية النموذجية للزنجي مثلا تتكون من مجموعة من الخبر والتجارب عن quot;الذاتquot; و quot;النحنquot; تكون مختلفة تماما عن تلك التي يكونها طفل ابيض وكذلك عن الهندي والعربي، فكل فرد منا ينمو في ثقافة معينة او ثقافة فرعية خاصة، هي مرجعيته.
واذا كانت الثقافة تتطلب الامتثال والطاعة والخضوع ، كما في المجتمعات العربية ذات النزعة الأبوية-البطريركية، فسوف تؤثر على شخصية الفرد وثقافته وتقوي عنده الميل نحو الخوف والتردد والطاعة والخضوع، واذا كانت الثقافة تتطلب القوة والسيطرة فسوف يقوي عنده الميل الى التسلط والعنف واتخاذ قرارات حاسمة ، اما اذا كانت الثقافة تتطلب التمهل والاعتدال فسوف تميل القرارات نحو التعقل والتوازن بين الامور.
ولا تظهر فاعلية هذه الثقافة الا في انعكاساتها في سلوك الافراد ومواقفهم في الحياة اليومية. فالشجاعة والمروءة والكرم لها فاعلية أقوى في المجتمع الريفي منه في مجتمع المدينة. اما في المدينة فقد تأخذ مثل هذه القيم طرائق ومعاني اخرى في التعبير عن طريق اعادة تشكيلها وتحويرها او تكيفها وفق العلاقات الاجتماعية السائدة. وفي مقدمة القيم والمعايير والسلوكات الثقافية المدينية هي الديمقراطية.

ما هي الديمقراطية؟

أولا - الديمقراطية كمفاهيم وقيم ومعايير حضرية وحقوق انسان تقوم على عقد مجتمعي- مدني يقوم على سيادة القانون.

وثانيا ndash; تقوم على مبدأ المساواة بين البشر دون تمييز بسبب الجنس او الدين او اللغة او اللون او المنشأ الاجتماعي.

ثالثا ndash; تشترط مبدأ المسائلة والعدالة في توزيع الحقوق والواجبات الذي يتطلب وجود دولة لها هيبة تستطيع بموجبها فرض القانون بالتساوي بين افراد المجتمع وبدون تمييز.

رابعا ndash; تكامل روح المواطنة ووحدة الهوية

خامسا - الديمقراطية جزء من منظومة كبرى ترتبط بالحداثة التي تقوم على العقلانية والعلمانية ( الفصل بين الدين والدولة) والتقدم الاجتماعي والنقد والنقد الذاتي.

والحال بدون ممارسة قيم الديمقراطية في الواقع لا تصبح الديمقراطية متكاملة، ولكنها أفضل من النظم الشمولية والدكتاتورية.
اذن ، الديمقراطية هي ثقافة وقيم واخلاق وسلوك اكثر مما هي مؤسسات ونظم ومفاهيم وآليات اجرائية. انها طرائق تفكير وعمل وسلوك تقوم على الحرية الفردية، والتعددية واحترام حقوق الانسان وتنظم طرائق التواصل والتفاهم والحوارالعقلاني الرشيد.
وللديمقراطية ايجابيات وسلبيات: فبالنسبة لمجتمعاتنا تظهر الجوانب الايجابية للديمقراطية فيما يلي :
انها تجربة وليدة ما زالت تحبو وتظهر فيما يلي :
*بذور مجتمع مدني- ديمقراطي في وسط صراعات حزبية وقبلية وطائفية وتناحر سياسي عنيف.

*المجتمع المفتوح : انتشار وسائل الاتصال والاعلام- جرائد ومجلات وفضائيات- وانترنت وبشكل عشوائي

*ظهور احزاب ومنظمات مجتمع مدني عديدة

*استخدام آليات ديمقراطية لاجراء انتخابات برلمانية

*دخول الانترنت الى البيوت والمقاهي والجامعات سوف يفتح نوافذ عديدة على الحداثة والديمقراطية.

اما الجوانب السلبية فتظهر كما يلي :
جاءت الديمقراطية من خارج المجتمع العربي- الاسلامي ودون ان تنمو نموا ذاتيا وتلقائيا
الديمقراطية شكلية على مستوى الممارسة العملية حيث ان اغلب الناخبين ادلوا باصواتهم حسب انتماءاتها الطائفية والعشائرية والحزبية ومصالحهم الخاصة.
الحرية الجديدة هي حرية هشة وتستغل باشكال مختلفة من قبل افراد المجتمع بوعي او بدونه
ان ضعف الدولة وروح المواطنة وانقسام الهوية لم يسمح بتنمية قوى ديمقراطية حقيقية وجديدة، ما عدا جزءا من قوى الشباب النامية، التي تحمل على اكتافها اليوم عمليات التغير والتغيير.
تطرح وضعية الديمقراطية الملتبسة تساؤلات عديدة :
حول قدرة العرب على العيش والتعايش في ظل جو من الحرية والديمقراطية الوليدة؟!
وهل هم مهيأون اليوم لتقبل الديمقراطية وممارستها؟
ما هي القيم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تؤثر في شخصية العربي فتجعله يتكلم بالديمقراطية ولكنه لا يمارسها في حياته اليومية، في العائلة والعمل والسلطة؟
وما هي الآليات المطلوبة لتطور وعي اجتماعي وثقافي وسياسي لتنمية ثقافة ديمقراطية حقيقية؟

أزمة ديمقراطية أم أزمة ثقافة ديمقراطية؟
ثمة حقيقة لا مناص من الاعتراف بها، وهي اننا نعيش اليوم أزمة وعي بالديمقراطية، وأزمة بممارستها بشكل صحيح ، ذلك ان الديمقراطية كمنهج في الحياة ما زالت مستعصية على الحل، وذلك بسبب فشل الافراد والجماعات والاحزاب بتعريفها وفهمها والقناعة بها ومناقشتها بحرية وممارستها بشفافية، واستغلالها لمصالح شخصية واهداف سياسية.
وفي الواقع ان عدم ممارسة الديمقراطية بشفافية لا تعود الى النظم السياسية فحسب، ولا الى آلياتها، ولا الى الآخر الاجنبي ، وانما تمتد في جذورها الى البنية الفكرية والاجتماعية الاستبدادية ذات النزعة الابوية الذكورية والثقافة التقليدية اللاديمقراطية .
ان تاريخنا الاجتماعي والثقافي هو تاريخ استبداد وقمع ليس من قبل السلطات السياسية فحسب، بل ومن جميع المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكذلك من العائلة ومن الفرد نفسه، الذي هو صنيع الثقافة القمعية التي فرضت قيودا عديدة على الفرد وعلى تفكيره وسلوكه، في اشكال من السيطرة الاجتماعية والنفسية التي اضفت عليها طابعا شرعيا جعلت المرء رهينة عجز تاريخي واجتماعي ـ نفسي متأصل الجذور في الثقافة العربية.
ومما يزيد في هذه الثنائية تعدد الولاءات والانتماءات والعصبيات للقبيلة والعشيرة والعائلة والطائفة والمحلة والحزب والوظيفة، وذلك بسبب ضعف الدولة وروح المواطنة وغياب مؤسسات مدنية حرة، الامر الذي ادى ويؤدي الى انعدام اي هامش من الحرية والتعددية والحوار وضعف العمل الجمعي وروح المبادرة والمغامرة والرفض والتحدي. وهو ما يشير الى ان الديمقراطية لم تجد لها مكانا في تاريخنا وتقاليد مجتمعنا الا في القليل النادر، واذا كانت هناك حركات او فئات حملت هذه الافكار او تبنتها فانها لم تستطيع تحقيق ما وعدت به.
كما ان الوعي بثقافة الديمقراطية قد لا يتجاوز اليوم سوى بعض الشرائح الحضرية المثقفة من بقايا الطبقة الوسطى التي ضمرت اصلا، وليس الجماعات والفئات من الجمهور العريض، وبخاصة من أصول ريفية ـ عشائرية- بدوية، التي ما تزال لا تؤمن بالديمقراطية ولا بممارستها، والتي ما تزال تعيش في quot;بداوة مقنعةquot;، وان ولائها للقبيلة والطائفة والمنطقة وليس للدولة والوطن. فنحن نتكلم عن الديمقراطية والشفافية وحرية الرأي والعقيدة وحقوق الانسان، وعن التسامح والحوار والتفاهم والاعتراف بالآخر، ولكننا لا نعي ما نقول، واذا وعيناه لا نعترف به واذا اعترفنا به لا نمارسه الا بالكلام، واذا مارسناه فاننا نستغله لمصالحنا الخاصة. ومن الملاحظ ان البعض منا يطالب بالديمقراطية ويتشدق بمفاهيمها وممارستها ولكنه في واقع الامر لا يمارسها فعلا مع افراد عائلته ومع اقرانه وفي عمله وعلاقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
الديمقراطية ليست مجرد افكار واقوال وشعارات نتغنى بها، وانما هي طريقة حياة وتفكير وعمل وسلوك وممارسة للحرية والتعددية وحقوق الانسان وفق قناعات الفرد الفكرية.
كما ان ممارسة الديمقراطية بشفافية، كثقافة وسلوك اجتماعي، ينبغي ان تبدأ من البيت أولا ثم من المدرسة والشارع والعمل ولا تنتهي إلا بالمؤسسات الادارية والسياسية والأمنية والعسكرية حتى قمة الهرم في الدولة.