يمكن تعريف العنف تعريفا اجرائيا بأنه الاستخدام غير المشروع للقوة المادية بأساليب متعددة لالحاق الاذى بالاشخاص والجماعات وتدمير الممتلكات، ويتضمن ذلك أساليب العقاب والاغتصاب والاعتداءات المختلفة وشن الحروب والتدخل في حريات الاخرين .كما ينطوي هذا السلوك على الاستخدام غير المشروع للقوة المادية، لأن العنف في جوهره نفي للاساس القائم على العقل والحكمة التي تغرس في الانسان النزعة الانسانية الرشيدة التي تحاول الوقوف امام انتصار الغريزة غير المهذبة امام العقل.واذا سلمنا بأن العنف هو الاستخدام غير القانوني وغير المشروع للقوة، فعلينا اذن التمييز بين انماط واساليب العنف.أي محاولة تحديد العنف بالذات، بدقة وموضوعية وبالحدود التي تفصل معنى العنف عن باقي اشكال الضغط والاكراه.
كما ان اشكالية العنف اخذت تتطور بعد ان تطورت ادوات العنف واساليبه تطورا تقنيا هائلا، وبصورة خاصة بعد التطور التكنولوجي وثورة المعلومات والاتصالات الالكترونية، التي كونت من العالم قرية كونية صغيرة، الى درجة لم يعد من الممكن القول، بأن ثمة غاية سياسية تتناسب مع قدرتها التدميرية الهائلة، او تبرير استخدامها في الصراعات السياسية.[Soft Break]
وبالرغم من اختلاف وجهات النظر في تفسير اسباب العنفlsquo; فان جميعها تشير الى ان العنف هو أحد مكونات الجنس البشري انطلاقا من ان الطبيعة البشرية تحتوي على عنصري الخير والشر. كما ان ظاهرة العنف في المجتمع تتوقف في لحظة تاريخية على مجموعة متعددة ومتنوعة من العوامل الداخلية والخارجية، طبيعية واجتماعية وترتبط بالمستوى الثقافي والوعي الاجتماعي والتطور الحضاري.

العنف والقسوة
يشير فرنسيسكو هيريثير في كتابه quot;في العنفquot; ان الفئات الحاكمة المستبدة طورت شكلا جديدا ومتطرفا من العنف يمكن وصفه بالقسوة. وبهذا المعيار تمثل القسوة حالة نوعية حتى بالقياس الى عنف الحروب. ومثال على ذلك، ففي الحرب قد يكتفي الجيش او القائد المحارب بتدمير دفاعات العدو لتسهيل الحاق الهزيمة به. أما في حالة القسوة فلا يكتفي الجيش اوالقائد المحارب بهزيمة العدو، بل يتطلع الى تدميره وافناءه. وكثيرا ما لا يكتفي المستبد الجائر باعتقال او محاكمة المعارضين السياسيين والاكتفاء بسجنهم، وانما يوغل في قتلهم والتمثيل بضحاياه وتحطيمهم ذاتيا. وتبين سجلات أقبية السجون ومعتقلات التعذيب وكذلك شهادات الناجين منهم بوقائع رهيبة في فضاعتها وبشاعاتها. كما تكشف سجلات دوائر الأمن والمخابرات الطبيعة القاسية للحكام المستبدين وعالمهم المخيف، بحيث تصبح القسوة جزء من المشروع السلطوي التي تهدف الى اذلال الاخرين وسحقهم ليكونوا عبرة للمعارضين للحكم المستبد، كما يحدث اليوم من استخدام ابشع الوسائل والاساليب واقساها ضد من يشارك في ربيع الثورات العربية السلمية.
ويعتمد العنف، من جهة اخرى، على اساليب وادوات القمع. ولا يعني ذلك ان السلطة والعنف شيء واحد دوماً. وبحسب حنا ارندت laquo;يمكننا وصف السلطة الاكثر تطرفاً بعبارة: الجميع ضد الواحد (المتسلط)، في حين يمكننا وصف العنف الاكثر تطرفاً بعبارة: الواحد ضد الجميعraquo;. والواقع لا يمكن ان يكون القمع ممكناً بدون الادوات القامعة والافراد الذين يستخدمونها، والعجز عن الافلات منه.
يمكننا القول اذن، ان السلطة ليست فردية، وحين نقول laquo;فرديةraquo; فإننا نشير، في الحقيقة، الى ان هذا الفرد قد سلط من قبل عدد من الناس لكي يكون مستبداً، فإذا اختفت الجماعة التي نبعت عنها السلطة، سوف تختفي ايضاً سلطة الفرد المتسلط باسمها، لأن كل سلطة مستبدة لا تقوم على تفوق ادوات العنف فحسب، بل وعلى تضامن بين المستبدين الكبار والصغار. وحين لا يجد المستبدون من يدعمهم laquo;ويصفق لهمraquo; لا يكون هناك مبرر لاستخدام العنف استخداماً ناجحاً. والحال لا يستمد المتسلط قوته ونفوذه من مؤهلاته الخاصة، وانما من ضعف المجتمع وتمزق الجماعات وعدم وعيهم وتنظيمهم ووحدتهم، وكذلك شعورهم بالعجز عن تحمل المسؤولية، وهو ما يساعد المستبد على توسيع حدود نفوذه بمساعدة اعوانه من المستبدين الصغار واعوانهم وتابعيهم من المرتزقة.[Soft Break]العنف والتسلط هما اذن صنوان متلازمان لادامة تاريخ الاستبداد والقمع والاذلال، وهو الوجه الآخر للارهاب، الذي يفرضه انسان على آخر.
والقسوة هي الاصرار على الشدة والصلابة والاستمرار في القهر. وقد قيل laquo;انه اقسى من الصخرraquo; أي عديم الرحمة. واذا كان العنف احياناً غير مقصود، وعفويا، فالقسوة مقصودة وارادية وموجهة دوماً نحو الأضعف، خصوصاً اذا كان الخصم عنيداً، او عاجزاً عن الافلات منها.[Soft Break]ويختلف العنف عن القسوة واستعمال القوة، حين يكون استخدام القوة شرعياً وقانونياً، شرط ان يكون الحاكم شرعياً وعادلاً وقوياً، ولكن ليس من الضروري ان يكون الحاكم عنيفاً في استخدام القوة.[Soft Break]والقسوة بعنى آخر هي استخدام قصدي ومتعمد لالحاق الاذى الجسدي باشخاص في موقع ضعف وعجز امام استخدام القوة ورد ذلك الأذى. وغالبا ما تتقاطع القسوة مع العنف أو تكون هدفه، تبعا لما يسعى اليه من يستخدم العنف. ولكن لا يمكن تبرير استخدام القوة بأي حال من الأحوال، لأنها تقوم على عنف قصدي. وهناك انواع من القسوة كالجسدية والنفسية والاجتماعية، غير ان القسوة الجسدية هي المباشرة في اغلب الاحيان، عندما يعتدي انسان على آخر بالقوة او بواسطة أداة ما، في حين تكون القسوة النفسية او الاجتماعية هي اعتداء بصورة غير مباشرة ومباشرة أحيانا ويكاد تأثيرها في بعض الاحيان اكبر من تأثير القسوة الجسدية، باعتبارها اهانة ومذلة وتنتج آثارا نفسية شديدة الوطأة على الانسان المكسور.
والواقع تركز السلطة دوماً على العدد، الذي يطلق عليهم عبد الرحمن الكواكبي laquo;المستبدين الصغارraquo;، حيث لا يتم استخدام العنف الا بهم. كما يعتمد العنف، من جهة اخرى، على اساليب وادوات القمع. ولا يعني ذلك ان السلطة والعنف شيء واحد دوماً. وبحسب حنا ارندت laquo;يمكننا وصف السلطة الاكثر تطرفاً بعبارة: الجميع ضد الواحد (المتسلط)، في حين يمكننا وصف العنف الاكثر تطرفاً بعبارة: الواحد ضد الجميعraquo;.
والواقع لا يمكن ان يكون القمع ممكناً بدون الادوات القامعة والافراد الذين يستخدمونها، والعجز عن الافلات منه.


العنف السياسي
العنف السياسي أياً كان شكله ومصدره هو ارهاب باعتباره يخرج عن القيم والمعايير الانسانية مثلما يخرج عن وسائل الضبط الاجتماعية، العرفية والوضعية، لأنه غير مشروع ويهدف الى التخلص من الطرف المقابل باستخدام جميع أدوات الابادة والتدمير.[Soft Break]وهناك جملة من الاسباب التي تدفع للعنف السياسي، التي تختلف من مكان الى آخر ومن زمان الى آخر، وفي مقدمتها الشعور بالاحباط الذي ينشأ عن الصدمة الناتجة عن عدم تحقيق الآمال والتطلعات والاهداف وكذلك التناقضات والصراعات الاجتماعية واستبداد السلطات والقمع المفرط في العقاب دون الرجوع الى الاسباب الحقيقية والكامنة وراء فعل العنف، والتي تنشأ عن عدم ممارسة الديمقراطية والتعددية واحترام الرأي الآخر. وليس ظاهرة الاسلام السياسي التي تظهر في المجتمعات العربية والاسلامية سوى مظهر من مظاهر الصراع والتناقض الكبير بين الدولة والمجتمع والفرد والجماعة وعدم تطبيق القيم والمعايير الاسلامية الأصيلة وتأويلها حسب المصالح والاهداف.

العنف الرمزي
هناك اساليب ووسائل وادوات اخرى من العنف التي يمارسها الافراد بوعي او بدون وعي منهم. وهو ما نطلق عليه بالعنف الاجتماعي المقنع أو المخفي، وهو نوع من انواع العنف الرمزي غير المباشر في اغلب الاحيان، والذي يسكت عنه الناس.
وللعنف الرمزي اسسا وحواضن فكرية سرعان ما تتحول وفي لحضة مواتية الى عنف وقسوة. فهو يتغذى من نفس المنبع الذي يستمد منه العنف الدموي افكاره ودوافعه وتفسيراته المؤلة ومرتكزاته الفكرية والايديولوجية وكذلك تفسيراته الخاصة للنصوص وتضليلاته المشوهة.
يرى عالم النفس الاجتماعي الفرنسي بيار بورديو، بان الخطاب الديني المتطرف(الاصولي) هو خطاب رمزي يوؤل النصوص الدينية ويشوهها عبر خطاب عاطفي لاعقلاني.فهو يمتلك سلطة رمزية تكتسب شرعيتها من مقولاتها الخاصة ومن منطقها الداخلي ومن مفاهيمها الذاتية. كما يستمد شرعيته من استعدادات مؤيديه بشكل غيبي وانفعالي يدغدغ الغرائز الحسية والجسدية وينتج تأويلات خاطئة لمفهوم الحوار الثقافي، لانه مستمد من خطاب ديني أسير الصورة الاولى البدائية وتتحكم فيه ثنائيات ساذجة كالخير والشر والايمان والكفر والعقل والنقل، حيث ينتقل الخطاب الديني الى خطاب الهي يتماثل مع النص الديني المقدس او يتماهى معه اويخلق صورة لخطاب يقترب من المقدس ويتعالى على الواقع ولا يعترف بالمتغيرات التي تحدث فيه.
واذا كان هذا النوع من العنف هو آلية من آليات الدفاع عن الذات العاجزة التي لا تستطيع تحقيق اهدافها بصورة شرعية وصحيحة ومباشرة، فإنه غالباً ما يعبر عنه بأساليب عدوانية ملتوية، كالكراهية والسيطرة على الضعفاء واستغلالهم المادي والمعنوي والاتهام بالباطل واطالة الاعراض الاغتصاب والاعتداء الجنسي واضطهاد الاطفال وكبار السن والعجزة والمعوقين، وكذلك تخريب الممتلكات العامة والخاصة كضرب الكلاب والقطط وقطع الازهار وتكسير التليفونات العامة ورمي الفضلات في أي مكان وغير ذلك. فهم يعتبرون هذه الاشياء ملكا للحكومة وليس ملكا عاما للجميع، ولذلك يعبثون بها انتقاما من الحكومة التي يكرهونها. وغالبا ما ينشأ العنف المقنع في حالة عجز الفرد عن توجيهه نحو الداخل، اي نحو الذات لتأنيبها وجلدها والانتقام منها ،كالضرب على الرأس أو على الساقين أو جز شعر الرأس واللطم والبكاء وما شاكل ذلك. وقد ينتهز المرء الفرص المواتية لتوجيه الانتقام نحو الخارج، اي نحو الآخر وتدميره.
ان مجتمعا تسوده ثقافة العنف بدل التسامح والتواصل والتفاهم والحوار هو مجتمع عدواني لا يبقى للضعيف فيه من صوت او مكان.