تكلمنا في مقالنا السابق (انظر ايلاف في 8 أغسطس 2011) عن جيل التأسيس الذي بدأ في مطلع القرن الماضي وساهم في تشكيل الدولة العراقية. وسوف نتكلم عن جيل البناء الذي ساهم في نمو طبقة وسطى حملت على اكتافها التحديث والتقدم الاجتماعي.
جيل البناء
من الممكن القول بأن جيل البناء انما يمثل بوادر الاستقرار والتحديث والتقدم الاجتماعي والحضاري في العراق، الذي بدأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بالرغم من انغماس ذلك الجيل في حركات سياسية ومشاكل آيديولوجية وصراعات مصلحية على السلطة المتحالفة مع الانكليز. وبالرغم من تمرده وانتفاضاته، فقد انتج ملامح طبقة وسطى نامية اخذت على عاتقها بناء مؤسسات الدولة والمجتمع المدني وقام بنشاطات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية رسمت ملامح مجتمع يتطور ولو ببطىء ويسير نحو النمو والتحديث، مع طموحات قومية من جهة، واشتراكية من جهة ثانية، والدخول في العالم الرأسمالي من جهة ثالثة.
لقد فتح الاتصال الحضاري والتطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بابا واسعا للدخول الى الحداثة في العراق وكون مرحلة تاريخية هامة في تاريخ العراق الحديث، انجبت عددا كبيرا من العلماء والأدباء والمفكرين والفنانيين والتكنوقراط والتجار والصناعيين الذين كونوا quot;أنتليجنسياquot; وحملوا على اكتافهم مهام كبيرة لبناء العراق الجديد. كما تميزت تلك المرحلة بتنامي الاتجاهات السياسية والايديولوجية المتصارعة التي تمثلت بالاحزاب القومية كحزب الاستقلال وتأسيس النوادي والجمعيات العروبية مثل نادي المثنى وجمعية الدفاع عن فلسطين وجمعية النهضة القومية ونادي الجزيرة وجماعة العقداء الاربعة وغيرهم. كما تاسست احزاب يمينية وليبرالية مثلت بعضها الطبقة الحاكمة،كحزب الاتحاد الدستوري الذي ترأسه نوري السعيد وحزب الامة الاشتراكي الذي ترأسه صالح جبر. كما تنامت الاحزاب السياسية ذات الطابع الوطني- الديمقراطي والاشتراكي. فقد مثلت جماعة الأهالي تيارا وطنيا ديمقراطيا معارضا وكان من ابرز روادها الأوائل عبد الفتاح ابراهيم. كما قامت باصدار جريدة الاهالي عام 1932 التي التزمت بنشر الوعي الوطني الفكري والسياسي. وبعد انظمام كامل الجادرجي وجعفر ابو التمن اليها اتخذت اسما جديدا هو الحزب الوطني الديمقراطي واصبح كامل الجادرجي رئيسا له. وفي عام 1932 تأسس الحزب الشيوعي العراقي، الذي نمى خلال الاربعينات والخمسينات واصبح حزبا جماهيريا واسعا رفع شعارquot;وطن حر وشعب سعيدquot;، وبقي سريا حتى ثورة 14 تموز 1958. كما تأسست جمعية الجوال القومية التي انظمت في منتصف الثلاثينات الى نادي المثنى الذي لعب دورا مهما في الحركة القومية، مثلما تأسست جمعيات واحزاب قومية كردية كان في مقدمتها الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة الملا مصطفى البرزاني عام 1946. وفي عام 1953 تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق. اما الحزب الاسلامي فقد تأسس عام 1960 وكان امتدادا لجمعية الأخوة الاسلامية بقيادة محمد محمود الصواف. وخلال الخمسينات اشتدت الصراعات بين الاتجاهات والايديولوجيات بعضها ضد البعض الآخر، غير ان اغلب الاحزاب الوطنية توحدت في جبهة وطنية عريضة قبل ثورة 14 تموز، وذلك نتيجة الممارسات الاستبدادية العديدة التي سببتها سياسات نوري سعيد والوصي عبد الآله المدعومة من قبل الانكليز، والاخطاء الجسيمة التي قامت بها، والحركات والانتفاضات التي قامت ضدها، من حركة الضباط الاحرار عام 1941، الى الانتفاضات الوطنية عام 1948و 1952 وضرب الحركات الكردية 1946 والدخول في حلف بغداد وغيرها.
بنية الاقتصاد العراقي
ومن اجل فهم مشروع بناء الدولة وتطور المجتمع ومؤسساته لابد لنا من التعرض لبنية الاقتصاد العراقي وما اعترضته من عقبات منذ الحرب العالمية الاولى ودوره في تطور الطبقة الوسطى التي حملت على اكتافها مهمة النهوض بالعراق وتحديثه.
تعرض العراق في نهاية العشرينيات الى أزمة اقتصادية كانت امتدادا للأزمة الاقتصادية العالمية ومخلفات الدولة العثمانية التي تراكمت عبر اكثر من اربعة قرون من الاستبداد والتخلف، حيث وضع العراق في خدمة القوات البريطانية ومجهوداتها الحربية ووقوعه تحت الاحتلال، مما جر الاقتصاد العراقي الى تضخم نقدي وتدهورمالي وركود اقتصادي، بسسب مظاهر التخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وغلبة الاقتصاد الزراعي وضعف القطاعين التجاري والصناعي وانعدام التخطيط التنموي العلمي.
وقد تميز الاقتصاد العراقي حتى ذلك الحين بنمط انتاج غير مكتمل، ففي الريف يسود نمط شبه اقطاعي مع نظام عشائري ـ أبوي. وفي المدن رأسمالية هامشية غير مكتملة جاءت نتيجة ربط الاقتصاد العراقي بلاقتصاد الرأسمالي العالمي ـ الذي لم ينشأ عن تطور داخلي طبيعي. فالعراق لم يشهد نظاما اقطاعيا راسخا وانما اشكالا من الملكيات الكبيرة والصغيرة التي تقوم على ضفاف الانهار. كما لم تنمو في العراق طبقة عمالية واسعة ولا طبقة برجوازية كبيرة كما هي في اوربا، وانما طبقة متوسطة دنيا ووسطى تستمد ثروتها من التجارة والحرف والصناعات الخفيفة واجهزة الدولة واخيرا من ريع النفط، اذ لا وجود لصناعات حديثة او لزراعة متقدمة، كما في الدول الصناعية، فما زالت وسائل الانتاج تقليدية بالرغم من دخول بعض المكننة الزراعية الى العراق ووجود عدد من الحرف وورشات النسيج والصناعات الصغيرة في بغداد والبصرة. وفي الحقيقة يمكننا القول، بان العراق خضع لاقتصاد هجيني اختلطت فيه ملكية الدولة بنشاط اقتصادي غير منتج، اي للاستهلاك الذاتي، محوره التجارة ويغلب عليه قطاع الخدمات.
وعلى صعيد البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية حدثت تغيرات وتحولات هامة وبخاصة في بغداد، بدأت بعد الحرب العالمية الثانية وبدأت ملامحها مع نمو الطبقة الوسطى وبدايات تقسيم العمل الاجتماعي الذي ساد آنذاك وفق تطور فئات وطبقات المجتمع العراقي وعلى اساس التقسيم الاقتصادي والاداري لمدينة بغداد، التي كانت حتى الثلاثينات من القرن الماضي عاصمة صغيرة نسبيا تقوم على نوع من التوازن في تقسيم العمل الاجتماعي التقليدي والتعايش بين فئات واديان وطوائف مختلفة. غير ان تبدلات وتحولات نوعية وكمية حدثت قبيل وبعد الحرب العالمية الثانية كان لها تأثير كبير في تغيير البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسكانية، ليس في بغداد فحسب، بل وفي كثير من المدن العراقية.
ان توزيع العمل الاجتماعي والاقتصادي الجديد عمل على خلخلة التوازن الذي كان قائما قبل الحرب العالمية الثانية وقيام تقسيم عمل جديد وتأسيس مناطق سكنية جديدة واحياء شعبية وغيرها واخذت بغداد على وجه الخصوص بالتوسع العامودي مع مجرى نهر دجلة. وكان من افرازات هذا التطور العشوائي السريع ظهور نزعة نحو تشكيل مدن- احياء ذات طابع طائفي اكثر من السابق. ومع ذلك بقيت بغداد مقسمة الى جانبي الكرخ والرصافة وبقي سوق الشورجة يشكل عصب الحياة التجارية ويرتبط بمحلةquot; صبابيغ الآلquot; والمحلات المجاورة لها حيث تسكن العوائل البغدادية العريقة التي تمتد أصولها الى العهد العباسي والتي كانت تسيطر على جزء كبير من التجارة والحياة الفكرية والدينية والسياسية، وبخاصة عائلة أبو التمن وبيوت كبة وعلاوي والخضيري والجلبي والازري ومكية والباججي وقنبر أغا والعطار وغيرها، الى جانب الأسر الدينية كالسادة والاشراف النقباء التي كانت تحتل مكانة دينية وثقافية متميزة ، في حين شكلت القشلة المركز الاداري للمدينة حيث تتفرع منها شوارع واسواق فرعية تكون الشرايين الرئيسية للعاصمة، التي اخذت تتوسع وتتأثر بالتغيرات الكمية والنوعية التي حدثت قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، وبصورة خاصة الهجرة من الريف الى المدن وانطلاقة النفط في العراق ودخول الشركات في اتفاقيات المناصفة وما نتج عن ذلك من ارتفاع هائل في ايرادات النفط التي قفزت من اربعة ملايين الى سبعين مليون دولار، وما رافق ذلك من اتساع حجم الدولة ووظائفها وكذلك مؤسسات التربية والتعليم وتضخم الجهاز الاداري وتوسع المؤسسة العسكرية ونشوء الحاجة الى ايدي عاملة الذي مهد للنزوح الريفي الى المدن للهرب من الجهل والفقر والمرض وظلم مالكي الارض الكبار وعلاقات الانتاج شبه الاقطاعية المتخلفة في الريف العراقي وكذلك لسد الحاجات المتزايدة للمدن الى الايدي العاملة الرخيصة باشكالها المختلفة.
وكلما توسعت بغداد وامتدت اطرافها كلما اخذت بغداد تفقد دورها القيادي بالتدريج وكذلك تلاحمها الاجتماعي المتين، مثلما اخذت تفقد بنيتها الديمغرافية الموحدة، وانتهى بذلك دور العوائل والاسر العراقية المدينية ليبدأ دور المهاجرين من الأطراف الذين ألقوا بثقلهم الكمي وليس النوعي فيها والانخراط في حياة المدن وترييفها.
نمو الطبقة الوسطى
اخذت الطبقة العاملة بالنمو التدريجي وخصوصا بعد تطور التجارة والمشاريع الحرفية والصناعية الصغيرة وتأسيس السكك الحديدية والمواني والمؤسسات النفطية وكذلك تأسيس النقابات العمالية التي اخذت تطالب بحقوق العمال القانونية وتحسين ظروف عملهم وحياتهم، الى جانب تطور التنظيمات السياسية والمنظمات والجمعيات المهنية والاجتماعية والثقافية.
وبالرغم من التنوع والتعدد والتعايش بين الاديان والطوائف والاقليات، كان لكل فئة منهم منطقته وحيه ومحلته. فاغلبية الشيعة يسكنون الكاظمية والشواكة والكرادة والثورة، في حين يسكن اغلبية السنة في الاعظمية وباب الشيخ والتكارتة وغيرها. اما الاكراد فكانوا يسكنون حي الاكراد ثم في حي جميلة، في حين سكن المسيحيون واليهود والارمن في عقد النصارى والعلوية وتل محمد والدورة وغيرها. ويلاحظ المرء انه بالرغم من تلك المناطقية، فان هناك اختلاطا وتداخلا وتعايشا وتسامحا اجتماعيا ودينيا واقتصاديا وسياسيا بين هذة الاحياء وبين سكانها وكذلك بينها وبين الأحياء الأخرى.
ومثلما تتوسع وتمتد بغداد تتوسع البصرة والموصل وغيرها من المدن الكبيرة وتزداد وتيرة النزوح الريفي الى المدن. وبدخول المكننة الزراعية الى القرى والارياف تبدأ أزمة البنى الزراعية بالاستفحال من دون ان يكون هناك فائض انتاج ولا اكتفاء ذاتي في الانتاج الزراعي. كما ان تطور الملكية الخاصة وتوسع التجارة الداخلية والخارجية ومن ثم اكتشاف النفط وازدياد وارداته قوض الاقتصاد الزراعي.
وبازدياد واردات النفط تنشأ تدريجيا دولة تعتمد على الريع الاستراتيجي من دون اللجوء الى الضرائب، التي هي الركيزة الاساسية التي يقوم عليها اقتصاد الدولة والمجتمع. وبتأثير الدولة الريعية تتطور بالتدريج الطبقة الوسطى المنتجة وغير المنتجة وما ينتج عنها من محاولات لاقامة مؤسسات المجتمع المدني. غير ان من مساوئ الدولة الريعية، هي انها توفر امكانية ربط المواطن بالدولة، وذلك لأنها، أي الدولة الريعية، ليست مضطرة الى الحصول على العملة الصعبة من افراد المجتمع المنتجين، بسبب سيطرتها على المنتجات الصناعية والزراعية وكذلك على واردات النفط، وهو ما ينتج تقسيما جديدا آخر للعمل هو اكثر تعقيدا من التقسيمات التي مر ذكرها اعلاه، حيث يعطل الاقتصاد الريعي العملية التمدينية وينزع الى منح السلطة استقلالية عن المجتمع من جهة، ومنح مكاسب وامتيازات لم تنجم عن العمل والاستحقاق والجدارة، وانما عن تفضيل سياسي وترسيخ مواقع فئة او فئات معينة وتوزيعها، مما يساعد على صنع ولاءات تشجع على تعميم الفساد.
وبالرغم من كل ذلك فان جيل البناء الذي مثل والى حد بعيد الخصائص العامة للشخصية العراقية، كان يعمل جاهدا الى تحديث المجتمع وتقدمه وازدهاره. وهناك مؤشرات عديدة على ذلك، في مقدمتها الرغبة والتهيؤ للدخول في علاقات اجتماعية واقتصادية جديدة وتعلم طرق مستحدثة لحل المشاكل اليومية كالايمان بالعلم والتقدم التكنولوجي واستخدام التخطيط العلمي في حل المشاكل التي تتعلق بالتنمية والتحديث واتباع طرق عقلانية عند مواجهة المصاعب والتحديات وعدم الاعتماد على التفسيرات الغيبية والاستسلام للقضاء والقدر. وقد ظهر ذلك في الاهتمام بالمعرفة والثقافة والسياسة عن طريق انتشار المدارس والمعاهد والجامعات وتزايد الاهتمام باهمية المكتبات والجمعيات والمنظمات الاجتماعية والثقافية والفنية وكذلك بوسائل الاتصال المختلفة والمشاركة في النشاطات الاجتماعية والثقافية والسياسية.
لقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حراكا اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، مثلما شهدت انتاج اشكال جديدة من الاداب والفنون وبدايات توسع منظمات المجتمع المدني التي دعت الى ايجاد صيغ جديدة لاعادة انتاج هوية وطنية جماعية وبناء ذاكرة تايخية ترتبط بالحضارات القديمة لوادي الرافدين وبالحضارة العربية الاسلامية وبمنجزات الحداثة، وبمعنى آخر ربط التراث بالمعاصرة، لمواجهة السياسة البريطانية في العراق.
غير ان جيل البناء واجه مصاعب كبيرة. فالى جانب المشاكل الاقتصادية والسياسية العديدة سببت الهجرة الواسعة من الريف الى المدن ترييف المدن وتشويه العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المدينية وتخريبها، التي ستترتب عليها نتائج اجتماعية واقتصادية وسياسية ليست بسيطة سنتحدث عنها في مقالة لاحقة.
التعليقات